مقالات مختارة

إذ تصبح الطوارئ مطلبا

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
نمارس في الاقتصاد دلالا يصل إلى حد العبث والسفه، يشهد بذلك تقرير وزارة التجارة عن السلع التي استوردتها مصر هذا العام التي منها: تفاح أحمر بقيمة 400 مليون دولار ــ طعام للقطط والكلاب 153 مليون دولار ــ لعب أطفال 55 مليون دولار ــ جمبري وكافيار 78 مليون دولار ــ ياميش رمضان نحو 104 ملايين دولار ــ لحوم طاووس وغزلان ونعام وما في حكمها نحو 95 مليون دولار ــ شيكولاتة 57 مليون دولار ــ سيارات للسباق وملاعب الجولف والبيتش باجي (للشواطئ) نحو 600 مليون دولار ــ ألعاب نارية كالشماريخ والبمب والمفرقعات 600 مليون دولار.

أيضا تحدث التقرير الذي نشره موقع «المصري اليوم» في 23/12 عن أن مصر حتى نهاية عام 2014 استوردت «مكسرات» شهر رمضان بقيمة 201 مليون دولار، وبهارات بما يعادل 48 مليون دولار ــ وكاكاو ومستحضراته بمبلغ 81 مليون دولار، وجبنة رومي بنحو 24 مليون دولار، وبصلا وثوما بما قيمته 12 مليون دولار.

بسبب هذا الدلال قدم البنك المركزي خلال الشهرين الماضيين 7.6 مليار دولار لتغطية طلبات الاستيراد. ووصل حجم الواردات المصرية إلى نحو 68 مليارا و376 مليون دولار في نهاية عام 2014، منها ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سلعا غير استراتيجية. ولا غرابة والأمر كذلك في أن يتراجع احتياطي النقد الأجنبي وترتفع قيمة الديون الخارجية، كل منهما بنحو 2 مليار دولار.

المعلومات السابقة تسربت ونشرت على الملأ بمناسبة القرارات التي أصدرها البنك المركزي المصري في الأسبوع الماضي، للحد من فوضى الاستيراد العشوائي خلال الشهر الأول من العام الجديد ضمن إجراءات مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.

لأن الأزمة ليست جديدة، فإن المرء لا يستطيع أن يكتم شعوره بالدهشة إزاء فتح الأبواب واسعة لاستمرار الاستيراد العشوائي، في حين أن مصر تمر بضائقة مالية غير خافية على أحد. ومن أهم أسبابها شح موارد النقد الأجنبي للأسباب المعروفة (توقف السياحة والاستثمارات وتراجع دخل قناة السويس جراء بطء حركة التجارة العالمية)؛ لذلك فإن الحد من السفه الاستيرادي يستحق الترحيب، رغم تأخر تلك الخطوة. لكن صواب الفكرة لا يعني حل الإشكال، وإنما قد يسهم في تخفيف وطأة الأزمة التي ستستمر لأسباب تستحق الشرح.

حين ناقشت من أعرف من خبراء الاقتصاد وجدت أن اتفاقهم منعقد على أن جوهر المشكلة المصرية يكمن في أن موارد النقد الأجنبي لا تكفي لتلبية الاحتياجات الضرورية، في الوقت الذي تعتمد فيه مصر على الاستيراد من الخارج حتى في توفير خبزها و60% من احتياجاتها الغذائية. وحل ذلك الإشكال له مدخلان ينبغي أن يتوازيا معا، الأول يكون بالحد من الواردات والثاني يتمثل في زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة الصادرات. وقرارات الترشيد التي اتخذها البنك المركزي أخيرا تلبي الشرط الأول دون الثاني. إذ حين لا نرى عملا جادا ومبتكرا لزيادة الإنتاج ومن ثم زيادة الصادرات، فإننا بذلك نحاول أن نتحرك معتمدين على ساق واحدة بدلا من اثنتين، أو قل إننا انتقلنا من عمى العينين إلى مرحلة العور والنظر بعين واحدة.

أكرر أن الحد من الاستيراد العشوائي خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن اللجوء إلى الاقتراض من الخارج خطوة إلى الوراء. والحلان ينتميان إلى التفكير التقليدي والكلاسيكي. أما الذي يحتاج إلى ابتكار وإبداع حقا، فهو استنهاض همم الداخل وتكثيف الجهود لزيادة الإنتاج وتجويده لكي يلبي احتياجات الاستهلاك، ويصبح صالحا للتصدير إلى الخارج. صحيح أن قرارات الحد من الاستيراد العشوائي والاقتراض من الخارج تعد حلولا سريعة المفعول، في حين أن خطط زيادة الإنتاج وتجويده تستغرق وقتا أطول، إلا أن الأولى مجرد مسكنات ولا يخلو الاقتراض من آثار جانبية سلبية، أما الأخيرة فتمثل حلولا أساسية تعيد إلى النظام الاقتصادي عافيته وتفتح أمامه آفاق التقدم والنهوض.

إن شبح التراجع في أسعار النفط والركود في أسواق التجارة العالمية يذكرنا بالأزمة الاقتصادية التي مرت بها دول جنوب شرق آسيا في تسعينيات القرن الماضي. ورغم الفرق الواضح في طبيعة الأزمة وحدودها، إلا أن ما يهمنا في التجربة أن رئيس وزراء ماليزيا آنذاك مهاتير محمد أعلن الطوارئ الاقتصادية، فاختار الصمود ورفض الاقتراض من الخارج أو الانصياع لنصائح صندوق النقد الدولي. كما أنه أجرى مجموعة من الإصلاحات الداخلية التي أوقفت التدهور وأنقذ بلاده من الانهيار، وبذلك أعاد للاقتصاد الماليزي حيويته، الأمر الذي مكنه من عبور الأزمة بسلام واقتدار، وهو ما يعد نموذجا جديرا بالدراسة والاحتذاء.

إن مصر بحاجة إلى طوارئ اقتصادية مبتكرة تتسم بالشجاعة والحزم، تتبنى سياسات تؤسس لاقتصاد قوي ومستقر في الداخل، بدلا من إجراءات التسكين والامتصاص المؤقت للأزمات، صحيح أن العور أفضل من العمى، إلا أننا ينبغي ألا ننسى أن الإبصار بالعينين هو الأصل والهدف المنشود.

عن صحيفة الشرق القطرية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل