قضايا وآراء

كيف نقرأ فوز كوربن بزعامة حزب العمال وماذا نستفيد؟

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
تمر الأيام على من يتعسف في اقتناص الفرص، فتراه يتيح العنان لشهواته ولحقده وكيده الدفينين، ليفتك بالحرث والنسل والشجر والدواب وكل شيء حي وغير حي، ويزداد شراسة كُلما توسعت دائرة الفرصة له يمنة ويسرة ومن أمامه ومن خلفه. لكنه عندما تنزِل به النوازل قد يتذكر قول امرئ القيس فيقول: "اليوم خمر وغدا أمر". هذا حال ذلك المتعسف المطلق لشهواته العنان. لكن الإنسان المؤمن كيّس فطن، يعلم هؤلاء ويفطن أن الخير في البشرية باق، وعلى الأخص في أمته إلى يوم الدين، فعندما تهب رياح التغيير الطيبة، يكون هو خير من يأخذ بريحها، فيحلق طائرا بقيمه، ليرى بعينه، ومن خلال الأثير، ينابيع الرحمة تملأ الإنسانية، لا جداول الحقد والأنانية الإبليسية المقيتة.
 
بالطبع، لقد أثلج صدورنا وصدور الكثيرين من حولنا فوز السياسي البريطاني المخضرم، جيرمي كوربِن، زعيما لحزب العمال البريطاني، وبذلك يكون الحزب المعارض الأقوى والأكبر في مواجهة الحزب الحاكم في بريطانيا، حزب المحافظين بقيادة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.
 
لقد فاز جيرمي كوربن، رغم ما نسجوا له من معارضة شرسة داخل حزبه من وراء المتصهين توني بلير ومن في زمرته أمثال جوردن براون. كم من كلمات قِيلت وفي توقيتات متعمدة ومتزامنة، في محاولة للنيل منه والتأثير على من يمكن أن ينتخبه من داخل حزبه، وكم تناثرت العبارات بخصوص دعمه لقضية فلسطين العادلة وغيرها، ولكنها ما فتئت تفشل، فتكون الغلبة له في نيل زعامة حزبه، ذلك الحزب الذي نال منه توني بلير في سياسة نتج عنها من أكبر الكوارث الإنسانية، وذلك في حربه على عراق الرشيد والمعتصم (حاضنة الحضارات ومهد الكثير من الإبداعات العلمية العالمية) في تفتيت دولته، وتدمير الإنسان، والنيل من كرامته الأبية، وقتل وتشريد الآلاف من الأطفال والأمهات والشيب والشيبان والشباب.. هذا كله، وتجدنا ما زلنا نستقبل ذلك الباغي في ربوعنا، في الوقت الذي فيه الكثير ممن طلب مساءلته ومحاكمته في بريطانيا. 
 
 الزعيم الجديد لحزب العمال هو مناضل قديم، ومدافع عن قضايا هو مؤمن بها، وشخصية مميزة معروفة ومتواضعة تُجلها وتحترمها، متكلم ذو طابع خاص في البرلمان البريطاني، داعم لقضية فلسطين الحبيبة التي تئِن بجراحها، ومن بعدها قضية احتلال العراق وتفتيت أمته، وغيرها ممن تلاها.
 
تصاب بحالة من الفرح والذهول في آن واحد عند سماعك تلك الأنباء، ولكن سرعان ما تُلملِم أنفاسك لتستوعب ما يمكن أن يترتب عليه ذلك. لم تخفِ الكثير من مواقع الصحف الإلكترونية حدة تفاعلها مع الحدث، فمثلا علقت جريدة الغارديان البريطانية في موقعها على الإنترنت في 12 من سبتمبر 2015: "جيرمي كوربن انتخب زعيما لحزب العمال البريطاني بنسبة 59.5% من أول جولة. نصر ساحق يضاءل أمامه التفويض لتوني بلير من حزبه في عام 1994. لقد هزم منافسيه أندي بورهام الذي حصل على نسبة 19%، يفيت كوبر بنسبة 19%، والمرشحة البليرية ليز كندل جاءت الأخيرة بنسبة 4.50%".
 
لم يشأ جيرمي كوربن إلا أن يعقب مباشرة بعد نصره، ليقول كلمة تسجل حروفها في التاريخ، وتذكيرا خاصا لمن يريدون وما زالوا لا يرون سنن التغيير تمضي. لن أكون متفائلا لدرجة أن يُغشى علي من الإفراط يمنة أو التفريط يسرة، لكني أنقل بعضا من تلك الكلمات مترجما ما قاله كوربن: "لقد سئم الناس من الظلم وعدم المساواة في بريطانيا. إن الإعلام والكثير منا -ببساطة- لم يفهموا وجهات نظر الشباب في دولتنا. لقد كانوا محبطين من الكيفية التي تدار بها السياسة في بلادنا. يلزم علينا ويجب تغيير ذلك. المواجهة العكسية تُلملِم سرعتها وتسارعها".
 
 أيها القوم: إن جيرمي كوربن يتكلم عن الظلم واللامساواة في بريطانيا العظمى!!! لاشك أنه يقصد ذلك بكل معاني الكلمات ومدلولاتها، وقد رأى وعايش وتألم من نتائج الظلم وعدم المساواة داخليا وخارجيا!!!
 
يا قومي: إن جيرمي كوربن يتكلم عن الشباب في بريطانيا، هؤلاء الذين لم تفهمهم -وساءت معاملتهم من قبل- سياسات حزبه (وغيرها أيضا)، الذي كان يقوده توني بلير إلى يونيو 2007 ومن ثم من جاءوا من بعده!!!
 
يا قومي: إن جيرمي كوربن يتكلم عن إحباط الشباب في بريطانيا من ساسة بلادهم وسياستها، فماذا نقول اليوم عن شبابنا وما بهم وما يعانون منه؟ ماذا نقول عن شبابنا ونحن نُحيد تربيتهم عن الصراط المستقيم، ولا نعتني بحقوقهم، ولا نكفيهم حق كرامتهم ولا حريتهم، ولا نعيرهم جل احتياجاتهم. هؤلاء الشباب الذين هم قرة عيوننا وأملنا وحملة رسالتنا، رسالة الرحمة للإنسانية التي بُعث بها سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
 
من منا لا يعلم ويزداد احتراما وتقديرا لشخص هذا الرجل عندما نتذكره ماشيا على قدميه، كتفا بكتف ويدا بيد مع أفراد أمتكم المواطنين (مواطنيه وشركائه في الوطن) في شوارع إنجلترا، مدافعا عن قضاياكم ومساندا لها، خصوصا قضيتي فلسطين والعراق؟
 
كم دافع جيرمي كوربن عن قضايانا، وقضايا أمته، وحقوق شعبه، وعن الظلم في أروقة البرلمان البريطاني وجلساته الأسبوعية؟
 
كم من ندوات ومحاضرات شارك فيها وقدمها عن قضايانا وقضايا أمته؟
 
كم من وقت وجهد بذله جيرمي في الإعلام، وهو يخوض حملته الانتخابية داخل حزبه، مؤمنا بما ناضل من أجله.. هو جيرمي ذلك الإنسان البسيط المتواضع الذي تتوق أن تتعلم من تواضعه وثقته بنفسه ورباطة جأشه؟
 
أتساءل هنا: ألم يأخذ جيرمي كوربن بالأسباب، فأتبع سببا سببا، حتى وصل إلى ما وصل إليه؟
 
بالطبع، لا أقصد ولا أعني البتة المقارنة بين ذي القرنين ذلك الرجل الموحد المذكور في القرآن الكريم في سورة الكهف، الذي لقبته بالمهندس الأول الذي أتبع سببا فأحسن صنعا، وذلك في مقالة سابقة. لكني وباجتهاد أقول هذا عن اتباع الأسباب، عاكسا لحكمة، بل ربما حكما، تعلمها جيرمي كوربن في نضاله السياسي ومع الجماهير، وإيمانه بقيم ومبادئ وقضايا آمن ودافع عنها، متخذا الأسباب.
 
لقد علمنا قرآننا ورسولنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أن نقول الحق والعدل ونعطي الناس قدرهم، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، كيف لا وقرآننا هادي البشرية إلى النور من الظلمات يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى، أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (8) المائدة.
 
نعم، إذا بُغي علينا من قبلهم فأُمِرنا بالعدل مع القوم وقول الحق والقسط والعمل بهما. هل يوجد دين أعظم من ديننا، ولكننا هل فهمنا وعملنا بالآية التي تلت الآية السابقة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، لَهُم مَّغْفِرَة وَأَجْر عَظِيم (9) (المائدة))؟
 
نرجو للجميع في بريطانيا وكل مواطنيها قاطبة أن يُقدروا ويُوظفوا ما رزقت به من بواعث للتغيير، حتى ولو كان ذلك في سنوات عجاف مررنا ونمر بها كبشر ممن أذقنا أنفسنا وأذاقونا وأذاقوا الإنسانية شر العذاب.
 
أدعو الله أن يهدي جاليتنا المسلمة في بريطانيا فتعيد النظر في فقه الأولويات، فلا يأتيك ممن حُملوا وحَملوا موروثات فيها من الشوائب ما يحتاج لتنقية ولفظ بدون فلاتر الضِرار، حتى يذهب الزبد ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، لأنه لا يمكن أن تكون رسالتنا إلا رحمة وخيرا للإنسانية قاطبة بل الكون كله. ونرجو من الله السلامة والعافية في فهم أجيالنا القادمة، فلا يأتيك من يقول لك إنه لن يشارك في الانتخابات البرلمانية والبلدية لأنهم ليسوا مسلمين. لا يستغرب الكثير أن ذلك وقع ويقع، وربما تراودك لحظات، ومن يحدثك بهذه المنهجية من الفكر السقيم، فتتمنى أن تخطفه الطير وتبعده عنك بعيدا، ولكن قليلا، حتى تدعو الله له بالهداية، ثم يعود به ذلك الطير فتكون ممن يحسن جداله، فلا تكن فظا غليظ القلب فينفض من حولك، وحتى إن تمنيت انفضاضه أحيانا.
 
كم نحن بحاجة إلى التعاضد -كتفا بكتف، ويدا بيد، بل روحا بروح- مثل الجسد الواحد؟ أقول هذا، وكلي رجاء ألا يتغلغل فكر "الفلول" إلى شبابنا ذكورا وإناثا، وأن نستمع لرأي أولادنا وكيف يرون الأمور من وجهة نظرهم، وممن تربوا على حرية الفكر والنقد، في الغرب خاصة، ولكن لا بد لها أن تكون حرية مقيدة بما ينسجم تماما مع شرعنا وقيمنا. إننا لا نبالغ إذا قلنا إن فكر الفلول، هذا الذي نقصده، قد رأيناه فعلا يتغلغل إلى عقول جيلنا نساء ورجالا، وليس فقط عند شبابنا إلا من رحم ربي. هنا تكون المصيبة أن تنقسم الجالية والأمة تبعا إلى فسطاطين أو إلى فساطيط، فيكون فكر ومؤامرة "فرق تسد" قد نجح، ولكن لا يأتي ضال عاجز في بصره وبصيرته، فيقول: هم من فعلوا بنا هذا!! بل لنقل الحقيقة، ولنعترف أننا بعيدون كل البعد عن "الخيرية"، ويعيدون كل البعد عن "التعاونية"، إنها أمة لو عملت بالتعاونية لما كان هذا حالها: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (2) (المائدة).
 
كم نحن بحاجة إلى أن نذكّر العالم بل نذكّر أنفسنا بساداتنا وقاداتنا العظام، الذين رعوا حق شعوبهم، فضمنوا لهم حق مسكنهم ومعاشهم وتربيتهم وتدريبهم، بل كرامتهم وحريتهم قبل أي شيء. ألا نتذكر قول الخليفة الراشد الفطن الذكي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي من درس سيرته لا مناص له إلا أن يقرأ المزيد، الذي قال لوال له، عندما سأله عن كيفية حكمه فيمن جاءه الناس سارقا أو ناهبا؟ فلما أجابه الوالي "أقطع يده"، معتمدا على الآية الكريمة في تطبيق الحدود، عندها قال له عمر بفطنته وذكائه وحسن قيادته لجيل أمته: "إذا، فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم".
 
 إنه يريد أن يضمن لهم المسكن، والمعاش، والأمن، والأمان من كل شيء، وأن يؤهِلهم في تربيتهم وتعليمهم ويدربهم -انظروا وكأننا نتكلم عن التدريب والتأهيل والتطوير في عصرنا الحديث- ثم من بعد هذا يحاسبهم. بالطبع هؤلاء هم القوم الذين قال الله عنهم في محكم التنزيل: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) (الحج).
 
وفي الختام، لا بد من كلمة حق تقال وحكمة نتعلمها من الناس قاطبة، مهما كانت أصولهم وخلفياتهم؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، فمن تصله الحكمة فلا يأخذها، فقد يهلك ويهلك من معه ومن يتبعهم.
 
 هل لنا في جيرمي كوربن وما وصل إليه، بالأسباب التي أخذها، والنتائج التي أوصلته لزعامة حزبه وكلماته اليوم، دروسا نستفيد منها كل في دائرة مسؤوليته؟
 
حفظ الله لنا عزتنا وكرامتنا، وشرح الله لنا صدورنا، ويسر لنا أمورنا، وحل عقدة من لساننا، كي يُفقه قولنا.. اللهم آمين.  

 
* الكاتب: رئيس مجموعة أبحاث هندسة البرمجيات
جامعة غرب إنجلترا - بريستول - المملكة المتحدة.
التعليقات (2)
التغيير حاصل ولو ببطء
الإثنين، 14-09-2015 02:41 ص
الشكر للكاتب على النصيحة القيمة، والتغيير في الغرب يحصل كما نشاهده في أمريكا والغرب عموما من إنتشار الوعي بجرائم إسرائيل وتحكمها بسياسات الدول الغربية. فوز كوربين علامة أخرى من علامات هذا التغيير، سبقتها خلاف أوباما العلني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، وحملة مقاطعة الجامعات الإسرائيلية. المهم أن تقف الشعوب والدول الإسلامية المواقف الإيجابية للمطالبة بحقوقها والسعي لتحصيلها. زوال إسرائيل حقيقة نعرفها، ونأمل أن نراها في حياتنا.
د خالد مبسلط
الأحد، 13-09-2015 12:14 م
بارك الله فيك عين العقل واكد على كلامك بتحكيم العقل . ولكن خبرتي في الحياه ان الاشخاص المخلصون وخاصه اذا كانوا مناصرين للحق والعداله وضد الصهيوصليبه لن تتاح لهم فرصه للعمل والتغيير.ليس تشاءما وانما الحقيقه المؤلمه. وان شاء الله اكون مخطا في ظني هذه المره بخصوص الرجل العظيم كوربين. تحياتنا.

خبر عاجل