قضايا وآراء

عندما يذهب النفعُ ويمكث الزبدُ في أروقة صُروحنا العلمية

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
لم يُشرع الشارع إمكانية نقل الأعضاء البشرية سواء أكان هذا متعلقا بنقل عضو من حي أو من ميت أو من جنين إلا بضوابط شرعية، وعلة انتفاع دعت لها ضرورة المستفيد في أن يبقى أصل الحياة، أو أن يُحافظ على ديمومة وظيفة أساسية من وظائف الجسم البشري. إذن ديمومة الحياة وديمومة وظائف أجهزة جسم الإنسان شرعت الانتفاع بنقل عضو من متبرع لمستفيد حسب ضوابط معينة، ليس تفصيلها مجال حديثنا هنا. إنه ذلك الإنسان مناط التكريم في هذا الكون من خالقه، الذي من أجله تبذل كل السبل له لديمومة حياة كريمة له حتى وهو على مشارف فقدان حياته. 
 
اليوم نعيش حالة ارتباك بل تخبط في واحدة من أثمن مؤسساتنا ألا وهي مؤسسة الإنسان الذي جعله الله خليفته في الأرض ، لا ليفسد فيها ولا ليسفك الدماء، بل ليعمر الأرض ويحافظ عليها له ولمن يأتي من بعده. علمه خالقه أسماء الأشياء التي عجزت الملائكة أن تعلمها، تلك الأسماء التي تعلمها جعلته يعمر الأرض ويطور ويخترع حتى وصلنا إلى آفاق تقنية وصناعية فذة، كلها لخدمة ذلك الإنسان مدركا أن في هذا الكون أيات لقوم يعقلون.
 
بالأمس كُنا مُلهمِي الأمم وصانعي الحضارات التي أخذ منها الغرب لبناء حضارته التي نشهد. يكفي لنا أن نتذكر أن أقدم ثلاث جامعات على وجه الأرض قاطبة هي جامعات عربيه؛ هي جامعة القرويين في المغرب ثم جامعة الأزهر ثم المدرسة النظاميه لأبي حامد الغزاالي. ومن جاء في المرتبة الرابعة ولا الخامسة ليس جامعتا أكسفورد ولا كامبرج البريطانيتان المشهورتان. ومن قبل تلك الجامعات العربية الثلاث العريقة، نهض علماؤنا بالحركة العلمية والترجمة، وتصحيح الكثير عن الحضارات السابقة؛ مؤسسين لأقدم أسس لطرق البحث العلمية الاستقرائية، التي هي من أسس ما نرى اليوم في طرق البحث العلمي العالمية.
 
اليوم لسنا في قلة من جامعات حكومية ولا جامعات خاصة، لم يكن عند أجدادنا الأوائل اتحاد جامعات عربيه تتوق نفسك لزيارة أروقة مبانيه في هضبة تستنشق من عُليها هواء نقيا ، تلهث وراءه هربا من ظل جو مكهرب بعوادم السيارات. لكنه ماذا يصنع هذا الاتحاد مؤثرا تأثيرا ينوط برسالته على المستوى المطلوب في دفع عجلة القيادة، والتغيير أكاديميا وبحثيا وتربويا حتى فيمن يسيء أدبه في جامعته كما حدث في جامعة جدارا ؟ لست هنا في نقدي مخصصا بل مشخصا وكل الزملاء أساتذة كرام أجلهم.
 
اليوم لسنا في قلة من أساتذة جامعات بمختلف الرتب ، حتى إنك عندما تحصي عدد الأساتذة في بلد عربي ما، لربما تصاب بذهول يجعلك تشفق على الجامعات الغربيه نسبة وتناسبا، فربما تقترح عليها تعديل أسس ونظم الترقيات في الجامعات الغربيه لتصبح أكثر سهولة، ليزداد عدد أساتذتها بدرجة أستاذ دكتور!!!
 
اليوم لسنا في قلة من مختبرات علمية ووسائل تعلمية تستطيع بريشة قلم أن تطلب ما يضاهي أعرق الجامعات الغربية، ولكن هل تار بالطريقة المنوطة بها؟
 
اليوم لسنا في قلة من أعداد طلبة يدخلون الجامعات في مختلف التخصصات، ولو كانت معدلاتهم لا تناسب تلك التخصصات !!!
 
اليوم لسنا في قلة من عد المؤتمرات التي تعقد عندنا وفيها من الديباجات والعروض فيحرص من يحب حضورها على سياحة مؤتمرية !!!
 
اليوم لسنا في قلة من عدد أبحاث مؤتمراتنا ولا في عدد مجلاتنا العلمية، فتجد الغث والزبد متراميا في كثير من أشكاله بعيدة كل البعد عن البحث العلمي الرصين !!!
 
اليوم لسنا في قلة من نظم جودة نوعية وضعناها تمشيا مع موضة الجودة النوعية !!!
 
اليوم لسنا في قلة من التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد والجامعات المفتوحة.
 
اليوم لسنا في قلة من عمادات وعمداء البحث العلمي والدراسات العليا وبرامج الدراسات العليا التي سعت الكثير من الجامعات لإعطاء الخيار للطالب أو الطالبة لأخذ مساقات دراسية، بدلا من رسالة البحث العلمي، فلا يتعلمون طرق البحث العلمي على أصوله التي قلما تجد طالبا مبتعثا من جامعته لجامعة في الغرب يعرف أو يجيد طرق البحث العلمي، سواء على مستوى الدراسات الإنسانيه أو العلمية التطبيقية والهندسية؟ 
 
اليوم لسنا في قلة من صناديق البحث العلمي والبحث العلمي المشترك الذي تدعمه المجالس البحثية الأوروبية وغيرها.
 
اليوم لسنا في قلة من كثير على مستوى النوع !!! بل في كثير من قلة على مستوى الكيف !!!
 
اليوم ندرك بشكل بديهي أننا لسنا في قلة من أعداد في المدخلات للعملية التربوية التعليمية، ولكننا نعاني من الكيفية ، أي في نوعية تلك المدخلات. ولهذا نحن  في حالة تُشخص بكثرة الزبد وقلة النفع. أليس هذا هو حالنا وما نرى من نوعية مخرجات التعليم  ( … يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ  17 الرعد)  تلك الآمثال التي ضربها الله لنا في محكم التنزيل هي ظواهر لم نخطط لعدم الوصول إليها، وكان إبن القيم محقا في لفتته عندما قال في كتابه أعلام الموقعين [1] "ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما".  فهل نحن من أهلهما؟ 
 
لهذا فنحن نعاني من متلازمة (Syndrome)  “ذهاب النفع وكثرة الزبد”.إنه صراع بين الحق والباطل فهل ندرك كنهه؟
 
الترهل الذي نعيش على المستويين التربوي والتعليمي متعدد المشاهد مترامي الأطراف والمواقع. أي إننا في مرحلة الشيخوخه أو مرحلة التنكُس متراجعين لأرذل العمر مثل ذلك الإنسان الذي تنكس بعدما كان في ريعان شبابه ونفعه. (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ  أَفَلَا يَعْقِلُونَ 68 ياسين)  
 
لست هنا من يدعي أن عنده حلا سحريا، أبدا، ولكني أقول نحن أمة أعطاها الله عزوجل قانون صناعة الأمل في آية من أجمل آيات السنن في الكون: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد(11)
 
كيف لنا أن نتغير فنغير ونحن لا نجيد فن التخطيط الآصيل دون هوى، فلا نكون مثل من اتخذ إله هواه فضل وأضل وخسر سعادة الدارين.
 
كيف لنا أن نتغير ومناهجنا الدراسية لا تنمي القدرة الإبداعية البحثية عند الطفل في سن مبكرة ؟ نخرج طلبة ثانوية عامة ليتقدموا لدخول الجامعات في تخصصات لا يعرفون لماذا يدرسونها؟ بل تجد من يتخرج من الجامعة ويتقدم للدراسات العليا لدرجة الدكتوراه ولا يستطيع أن يعطيك جوابا شافيا لماذا هو مندفع لذلك، بل ربما يكون ممن ينكفئون على وجوههم إن كان في مقابلة رسمية لقبوله فيقول لك: أريد أن أكون دكتورا في الجامعة كي أدرس !!! فغاب عنه أنه ليس من الضروري أن يحصل على شهادة الدكتوراه كي يدرس في جامعة، إلا إذا أراد أن يسلك طريق البحث متعلما أصول البحث وطرائقه في منهج مشرف عليه.
 
كيف لنا أن نتغير ومعلمونا ليسوا في مقدمة الاقتدار المادي لقوتهم وقوت أسرهم ورفاهية يستحقونها؟ متى نسمع أن وظيفة المعلم في المدرسة تضاهي في عائدها المادي الطبيب وغيره؟ لماذا يا سادتي يا وزراء التعليم لا تنهضوا بالمعلم لأرقى المستويات في تدريبه وكفاية ليس عيشه ، بل رفاهيته كي يبدع في تدريسه، ولا يجد نفسه إلا في مهمته السامية الأصيله؟
 
كيف لنا أن نتغير ويكون لدينا فقهاء في ديننا ومن يدخل كلية الشريعة وأصول الدين هم من يحصلون على أدنى المعدلات في الثانوية العامه؟ كيف لهؤلاء أن يكونوا في درجة الاجتهاد الشرعي؟ كيف يمكن لهؤلاء وخلفيتهم في العلوم الأخرى ضحلة، فلا يكونون ملمين بما يتطور ويحدث حتى يبدعوا في فهم متغيرات الحياة فيسهموا في قيادة نهضة تجدد الفكر الديني على أسسه وأصوله، دون إفراط ولا تفريط؟ يا سادة يا وزراء التعليم العالي لوكنت مسؤولا مخططا مقررا لجعلت من يُقبل لدراسة تخصص الشريعة وأصول الدين هو من كان متميزا في دراسته الثانويه، بأداء لا يقل عن أداء من يتقدم لدراسة الطب مثلا؟ عندها تكون المدخلات للعملية النربوية التعلمية قد أصابها النفع وجانبها الزلل، فيكون المنتج في نوعية تقود فتغير في منظومة هندسية تغذي نفسها ذاتيا، دؤوبة في سنة التغيير وقانون صناعة الأمل.
 
كيف لنا أن نتغير والمحسوبية والجهوية والمصلحجية تهيمن على قرارنا وربما تحيده، فنكون أمة الظلم لا أمة العدل، فنحيد عن مناط مقاصد شريعتنا الخمسه حسب ما آسس لها إمام مدرسة المقاصد الشرعية - الإمام الشاطبي وغيره؟
 
كيف لنا أن نتغير ولا نطبق بشكل عادل على منسوبي التعلم والتعليم قانون “من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”؟  كيف لنا أن نتقدم ولا نطبق سنة ذي القرنين الذي مكن الله له في الأرض وأعطاه من كل شيء سببا ، فماذا صنع؟ إنه أتبع كل شيء سببا فجعل ما أعطي سببا لما ينتج بعده، وأتبع الآسباب بعضها بعضا. ألم يؤسس ذو القرنين لمدرسة إدارة الموارد البشرية والعلمية والثروات الطبيعية، وكأنه مخطط مدير تنفيذي للمشاريع، مهندس مدبر لموقع الأعمال الهندسية. مع كل نجاحه أسس ذو القرنين لمن حوله - أن من عمل وليس متكبرا ولا متغطرسا وكأنه فريد من نوعه - أن ذلك الإنتاج الفريد “السد والردم المنيع” الذي قاد مشروع بنائه، هو من رحمة الله وليس من قوم “إنه على علم مني” ، بل ومع عظم ما بنى ذكرهم أن ذلك السد إلى نهايته بأمر الله.  
 
كيف لنا أن نتغير  ونحن لا ندرك جيدا كيمياء البحث العلمي مثل من لا يدرك كيمياء الحب في الدماغ ؟ فيظن أن الحب هو كلمات على بطاقات تباع وتشترى وأيقونات على صفحات الشبكة العنكبوتية، وبعضا من ورود هنا وهناك فخسر الحب الحقيقي وأهله؟ 
 
كيف لنا أن نتغير ونحن لا نعرف متطلباتنا في الآسواق والصناعات، فيكون هناك توأمة في العمل بين الجامعات والصناعة ومؤسسات المجتمع وتخصصاته الإنسانية ، ليس فقط الهندسية والطبية؟ فننتج برامج دراسية تتناسب مع ما يحتاجه وتتطلبه مقتضيات حاجاتنا ومجتمعنا وصناعته وأعماله !
 
الكثير الكثير ما نحتاج إليه كي نغير فنتغير. هنا آعكف في طريقي لختم هذا الحديث بكلمات للمفكر الإسلامي الكبير - الفيلسوف والمهندس الكهربائي - مالك بن نبي الذي قال في كتابه “بين الرشاد والتيه” [2] : 
 
“وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن العربي ، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها ، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات الحوانيت  ولافتاته ، إلا أن التغييرات هذه جميعا تصبح مجرد سحر للأبصار، ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه”
 
رحم الله مالك بن نبي ذلك المفكر الكبير الإسلامي الذي أثرى بفكره الذي لم يستوعبه الكثيرون في وقته وبعده وإلى يومنا هذا. ولد في عام 1905 في مدينة قسنطينة التي لها مذاق خاص لمن يتشرف بزيارتها. توفي رحمه الله في عام 1973 تاركا وراءه إرثا فكريا وفلسفيا أدعو الله أن يُنتفع به ويكون له في ميزان حسناته.
 
حفظ الله لنا قيمنا وهدانا لسنن التغيير وصناعة الأمل ، فنكون ممكن يصلح أن يكون خليفة الله في الأرض.
2
التعليقات (2)
ايمان قدومي
السبت، 29-08-2015 07:36 م
مقال رائع لوصف حاضر نعيش فيه للأسف
د خالد مبسلط
الجمعة، 28-08-2015 07:19 م
احسنت مقال واقعي وراءع. وننتظر المزيد.