قضايا وآراء

الدين والمجتمع والحياة.. أوروبا تراجع

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
حين يطرح يرجن هابرماس (1929م_ ) أسئلته ومقولاته حول الدين والمجتمع والحياة والديمقراطية والسلطة.. فينبغي على الجميع أن ينتبهوا ويسمعوا ويرصدوا.. إذ أن هابرماس ليس مجرد عالم اجتماع . ولا مجرد مفكر.. ولا حتى مجرد فيلسوف.. هو ببساطه الابن البار (لمدرسه فرانكفورت).. تلك المدرسة التي تأسست في معهد البحث الاجتماعي بجامعة فرانكفورت عام 1930م معلنة خروج تيار فكري قوي ينقد النظام الاجتماعي القائم ومبشرة بنظام اجتماعي أكثر إنسانية.. قدمت المدرسة رؤية جديدة لدور العلم في إنتاج المعرفة وأهمية دراسة الشروط العلمية لإنتاج العلم حتى يكون العلم قوة دافعة للمجتمع.. مدرسه فرانكفورت كانت أهم معول هدم في صرح الماركسية.. لم يبق من عمالقة المدرسة إلا الألماني هابرماس الذي نقد كل المعطيات الجديدة في عالم الأفكار من عولمة المجتمع إلى ما بعد الحداثة إلى ما بعد العلمانية.. داعيا إلى إعلاء قيمة الإنسان وتعميق العلاقة بين الفرد والمجتمع لمحاربة تزييف الوعي الذي تمارسه أجهزة الإعلام حتى تتضح المعايير الصحيحة للحقيقة.

طرح الرجل مفهوما وضّاحا مليء بالمعنى حول فكرة (الدين).. والدين في الغرب ومدارسة الفكرية موضوع بالغ الحساسية والتركيب.. ماذا قال هابرماس ؟ قال أن معظم المبادئ العلمانية الكبرى (كالعدل والمساواة) مصدرها الدين وتعاليمه.. حتى إن أهم صيغة لعلاقة السلطة بالمجتمع وهى صيغه (العقد الاجتماعي) مستمدة من الدين.. أيضا فكرة (حقوق الإنسان) والجدارة الإنسانية مستمدة من الدين الذي ينص على أن كل الناس سواسية أمام الله.. ويفجر الرجل أخطر معنى - نعيه نحن في الشرق جيدا كوننا نؤمن بأن الدين جاء لتتميم مكارم الأخلاق- لينا وتواضعا وسماحة وإيثارا ورحمة وحنانا وعدلا وكرما وأنفة وعزة وشجاعة.. يقول عمنا هابرماس: لولا المصدر الديني للأخلاق والعدالة لكان من المشكوك فيه تعزيز هذه المثل وتثبيتها في واقع البشر على الأرض.. 

هابرماس قدم نقدا شديدا للنظام الرأسمالي كاشفا لا إنسانيته ولا عدالة نظامه.. الرجل خيب ظن (غاندي) الذى قال في كتابه الشهير (حضارتهم وخلاصنا ) : يستحق الغربي أن يكون سيد الأرض لأنه قادر على القيام بالأعمال الضخمة.. لكن هناك شيئا واحدا لا يستطيع الغربي عمله.. هو آن يجلس خمس دقائق فقط مع نفسه ينظر إليها بعينة الداخلية.. 

عمنا هابرماس فعلها.. ونظر بعينة الداخلية أكثر كثيرا من خمس دقائق.. فبعد الانقضاض السديد على الماركسية والرأسمالية انقض الرجل على العلمانية التي ألحقت شراً بشر.. مدرسة فرانكفورت أصبحت (مصيدة الفئران).. مع كل الشكر والاعتذار للأخ (هاملت) على اختراعه هذا الوصف الدقيق.

بروحه القلقة وفكره الوثاب فاض علينا من صراحة اليقين وأضاف معنى جديداً أيضا بقوله أن الدين كان له دور شديد الأهمية في الحفاظ على المجتمعات من توحش الرأسمالية وأثرها السيء في الطغيان الاستهلاكي على الناس والسعي الشرس نحو تحقيق الطموحات الدنيوية وما إلى ذلك.. وهذا بما يمتلكه الدين من رصيد للتسامي والتعالي على الدنيا.. دعونا نذكر الحديث الشريف (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم).. ما أروع كلامه صلى الله عليه وسلم .
نحن الآن أمام مفكر غربي هو الآن أهم عقل فلسفي في أوروبا تقريبا كما يصفون الرجل.. قال ببساطة إن المرجعية الدينية لا تتعارض أبدا مع الحياة و.. وهاجم العلمانيين الذين لا يكفون عن مطالبة المتدينين (بالتسامح) في حين أنهم لا يفعلون ذلك !!.. 

أرى أن أوروبا تقترب من تغيير مفاهيمها القديمة عن الدين والإيمان.. فبعد أن سيطر هيجل (1770 -1831م) وماركس (1818 – 1883م) ونيتشه (1844 - 1900م) على الثقافة الغربية فيما يتعلق بالدين وتطبيقاته وسادت أوروبا ثقافة العلمانية المتطرفة.. ها نحن نرى الآن حالة تعافى من محنة العلاقة بين المرجعية الدينية والحياة .وأصبح الإيمان حاضرا بقوة في حركة الأفكار وتطورها على نحو يزيل تلك القطيعة التاريخية مع (الدين) كونه النبع الفياض بكل ما هو عظيم وقويم.

في لقاء لي مع أحد المفكرين السياسيين الكبار طرحت عليه ما قاله هابرماس فأنكر معرفته بهذا الكلام.. !!ما أدهشني أكثر هو عدم معرفته بأن له كتابين على درجة كبيرة من الأهمية فيما يتعلق بثلاثية (الدين والسلطة والمجتمع) الأول هو (نظريه الفعل التواصلي) والثاني (الدين والعقلانية).. الأهم والأخطر أنه لم يعرف أن للدكتور عبد الوهاب المسيري كتاب في هذه المعاني بعنوان (الخطاب الإسلامي الجديد) هذا السياسي المخضرم قيمه فكرية واستراتيجية كبيرة وهومن الأمناء في آرائهم لكنه من أسف يعانى مما يعانى منه كثير من مثقفينا الكبار وهو حاله (توقف) عند أقوال أتاتورك وسلامه موسى وشميل وأنطون.. وأن الإسلاميين يريدون قطع يد السارق وتنقيب المرأة وكل الطقم إياه الذين اعتاد أصدقاؤنا العلمانيون ترداده.. لا أخفى عليكم كنت في حاله خجل لم استطع إخفاءها..

لأن الرجل فعلا كان يريد أن يعرف.. ولم ينكر معرفته بما قلت كبرا وجحودا.. لكن المسائل فعلا تبلورت في ذهنه بشكل نهائي على ما هي عليه.. 

وهيهات هيهات من تغيير (طوبى لمن يستطيع آن يكون كما لو أنه لم يكن أبدا).

وحادثت نفسي بكثير من الأسى إذا كان هذا هو الحال عند (المفكر) الذي لا عمل له إلا البحث والسؤال ومتابعه حركة الأفكار وتطورها.. فما يكون حال السياسي التنفيذي الذي قد لا يجد وقتا كافيا للمتابعة والتواصل. 
0
التعليقات (0)