كتاب عربي 21

نطق الصندوق في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
نطق الصندوق في تونس ولم يحدث المفاجأة الثورية المنتظرة في الربيع العربي. وتنهمر الآن التحليلات المتهافتة عن الأسباب والمآلات و تنهمر الاتهامات  في كل الاتجاهات  وتجيش عواطف كثيرة، بما يجعل تحليل الساعات الأولى جميعها أقل من أن يعتد بها. لكن لا بد من الإقرار بأن صف المؤمنين بالتغيير الفعلي والثوري ظهر أضعف من أن يقف أمام  تيار الثورة المضادة الكاسح. من السهل بل من المريح البحث في لحظة الهزيمة عن كبش الفداء وتعليق الهزيمة على شماعته. لكن من الغباء ترويج خطاب نصر غير مسنود فعلا. من المريح أيضا الغطس في قراءة الأرقام والبحث عن تفاصيل موضعية لمعالجة داء عضال مستشر، ثم التخلص بلعن الشعب الغبي ثم صعود ربوة النقاء الثوري. يوجد خطأ  جسيم في قصيدة الثورة منذ البداية. ويجب أن يتم تحديده بدقة  في أفق استئناف معركة الحريات من الصفر.

أين يكمن الخطأ؟

عفوية الثورة في المنطلق وغياب القيادة  كان سمة واضحة وتم التأكيد عليها و كان الأمل معقودا أن تظهر هذه القيادة رغم كل الهنات في أثناء السير نحو إرساء البدائل التي طالبت بها الثورة  لكن حصل  العكس لقد ظهر من القيادات أكثر ما تستحق الثورة حتى لم تعد تعرف الثورة من يقودها والى أين تسير. تحولت الثورة إلى جيش مكسيكي جنرالاته أكثر من جنوده ثم في اضطراب البرامج/ الأوامر تخلف الجنود القلائل عن المعركة. ففتحت الثغرة المنتظرة وتسرب النظام القديم من باب الجوع ليعيد مسك البلد بقبضته اللزجة و يخنق بهدوء يتقنه كل مفاصل الفعل بما أوصلنا إلى لحظة 21 ديسمبر وتملكه بشرعية الصندوق من جديد.

لقد  بررنا كثيرا من أخطاء المسار بعفوية الثورة  وسلمنا بأن عهد الدكتاتورية لم يسمح بظهور زعامات سياسية  ذات ثقل رمزي وكاريزما وبرنامج وعذرنا للسياسيين الذين كانوا في المشهد ضعفهم؛ وكان عذرنا لهم انتظارا ليتعقلوا ويتوحدوا ويقودوا، وكان الاستعداد للقبول بهم  أكثر مما يتوقعون لكنهم في لحظة العقل السياسي اختاروا  الموقع الخطأ.

ولقد قبلنا بالمسار الانتقالي عبر العمل السياسي القائم على الانتخابات والتهدئة في الشارع والحفاظ على الأجهزة /المؤسسات. وكان بعض وهمنا أو طيبتنا أو غبائنا السياسي يصور لنا أنه يمكن فسخ نظام قديم بصندوق الانتخاب. وكنا في كل مرة نقول ليس بالإمكان أفضل أو هذه هي الحلول الأقل كلفة من الدم والاضطراب. وكان هذا مقتل ثورة لم تع عدوها الحقيقي.

في لحظات وعي كثيرة عدنا إلى لحظة تفكيك اعتصام القصبة الثانية وقلنا الخطأ بدأ من هناك لكننا واصلنا خداع وعينا، خاصة عند ظهور عناصر لم تكن في المشهد الأول وهي الآلة الإرهابية الموجهة، وولوغ البعض في الدم والاغتيال ودخول الخوف في منطقة العمليات.

تهنا في تفاصيل مشهد اعتقدنا أنه يتحرك وما كانت إلا مراوحة في المكان. وكان الشعب العميق يجوَّع عمدا حتى يرضخ نهائيا ويتنازل عن حلم التغيير الذي استيقظ عليه ذات صباح شتائي من سنة 2010. لقد تجلى الخطأ لنا الآن ... لم تكن الطبقة السياسية برمتها مؤمنة بالثورة.

طبقة سياسية فاسدة حتى النخاع وجبانة

صفقة القصبة التي جاءت بمنقذ من أرشيف الدكتاتورية مهدت لتتويج نفس الوجه السياسي الميت ليلة 21. كانت مقدمة خاطئة  انتهت إلى  نتيجتها الطبيعية وما مفاجأتنا الآن إلا لأن الخديعة تنكشف بكليتها في وجوهنا المتغابية. 

هذه الطبقة مخترقة وعاجزة ومتواطئة ضد شعب لم تؤمن به ولم تؤمن بفعله الثوري الممكن والمحتمل.

يتوزع هذه الطبقة أطياف عدة  منها:
• يسار خياني يأب إلا أن يعيش في ظل سلطة  تموله وتزكيه فيزكيها ويمنحها شرعية حكم لتمنحه أعطياتها. أمسك هذا اليسار بعنق نقابة ذات شرعية نضالية وجيَّر نضالاتها لتخريب الحد الأدنى السياسي الذي احتمت به الثورة، وهو نتائج انتخابات 23 أكتوبر. فاسقط حكوماتها وتفّه عملها وهي الجاهلة بالسلطة والمتجاهلة لإمكانيات الشارع. فعزلها عن شارعها ودفعها إلى التنازلات حتى صارت عنوانا للفشل والخيبة. 

• حزب إسلامي لا يؤمن رغم ثقله الشعبي بالشارع ولا بإمكانيات الثورة. مكنته الانتخابات من رقاب السلطة فلم يحسن قيادتها وبرك عليها كجسم ثقيل بارد، حتى خنق كل الاحتمالات الدافعة من أسفل لتجسيد مطالب الثورة في المحاسبة والقطع مع النظام القديم بوسائل كان منها الحسم القانوني والحسم الثوري.

• سياسيون ونخب يسارعون إلى الغنيمة السهلة بأقصر الطرق. تقافزوا كالجديان إلى مواقع السلطة والقرار القريبة باحثين عن غنم سريع بلا كلفة.

• هؤلاء جميعهم فضلا عن نخب متعلمة سلبية الفعل والإرادة ولا مبالية، غنموا من الثورة ولم ينصروها فانهارت كمشروع بين أيدي نظام قديم متمرس بالفعل السياسي الدوني القائم على الغش والتزييف، فاستعاد ما كان له وسيكون بإمكانه بكل يسر ركنهم على جنب والمضي في تدبير أمر البلد بأسلوبه القديم القائم على الترهيب والترغيب (العصا والجزرة)، وتفريق الناس لتيسير ضبطهم، وإحضارهم بين يديه مغلولين. لم يكن فساد هذه الطبقة ناتجا بالدرجة الأولى عن فعل نظام الدكتاتورية فيهم، بل يكمن في نوازعهم الخاصة كطبقة وسطى انتهازية بلا مبادئ ولا مشروع.

إمكانيات صعود الربوة من جديد؟

ثمة لحظة ذهول كاسحة تعقب انكشاف الحقيقة لكن الوقوف أمامها يزيدها حدة، ولذلك يجب طرح السؤال عن إمكانيات صعود ربوة الفعل السياسي الثوري من جديد؟ سيطرح الآن سؤال متخاذل ومهزوم عن جدوى الاستئناف  فقد حُصَّل ما في الصدور وعرف كل أناس مشربهم وختم على قلوب الكثيرين وانتهى الأمر؛ فلنستسلم للتيار.

سيصدر هذا الخطاب بسرعة عن أولئك الانتهازيين الذين سيغيرون لحاهم بسرعة مع النظام العائد بوعد الغنيمة، وسيرضون بالقليل كما هي عادتهم دوما وهم يعرفون أن هذا النظام يوزّع الخلع والأعطيات، فطبيعته اللامبدئية تجعله يرشي الطماعين ويقمع غيرهم. وسيحسبون من الذكاء أن يكونوا معه بأخف الأضرار وأقل الغنائم وتلك طبيعة فيهم. (هي نفس الطبيعة التي جعلتهم يغنمون من الثورة ولا ينصرونها) إنهم الآكلون على كل الموائد مهما كانت الوجبة ذليلة ورخيصة ومذلة.

لكن هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟ أعتقد أنه يوجد نور في آخر هذا النفق البغيض.

إنه مشروع الدكتور منصف المرزوقي الذي تبلور في مسار حملته الانتخابية  بمرحلتيها وجمع حول شخصه وفكرته أطياف واسعة من السياسيين والمثقفين وأبناء الشعب المفقرين في مناطق مختلفة من البلاد. نصف البلد تقريبا متحمس لهذا المشروع،  فالنتائج رغم التزييف برهنت على أن هناك فعلا تيارا شعبيا مؤمنا بالتغيير ويعتقد أنه ممكن وفي متناول اليد، وإن كانت اللحظة الآن للذهول إلا أن الذهول نفسه سيكون عملية فرز أخيرة لينسحب قصار النفس والنظر، وليتركوا الساحة للمؤمنين بما يمكن دون الاستسلام لما هو كائن.

هذا الطيف الواسع لم يتجمع في حزب ولا في جمعية سياسية واحدة، بل ضم طيفا مختلفا ومتعددا حول الدكتور المرزوقي. فيه من اليسار الوطني، ومن العروبيين الكافرين بالدبابة وبالبراميل المتفجرة. وفيه من الإسلاميين الكافرين بالولاء الحزبي والتنظيمي الجامد، الكافرين بدور المريد أمام الشيخ الملهم أو المعصوم. وفيه ليبراليون مؤمنون بالحرية شرطا للوجود. بل نجد فيه بعض المتحررين من ربقة النظام القديم نفسه والذين قدموا نقدهم الذاتي واعتذروا لشعبهم عن الانتماء القديم.

كيف يمكن توليف هذا الطيف المتعدد في عمل سياسي واحد منتم لخط الثورة ومؤمن بمشروعها؟ هذه هي المهمة الجديدة للنخب الحرة التي التفت حول المرزوقي بلا طمع في مغنم لم يكن يمكن له أن يوزعه أو يصطنع به أحدا منهم. لقد صرخوا بعفوية ستظل في تاريخ الشعارات السياسية العظيمة جيناك بلاش فلوس. قريبا جدا سينسحب من بينهم بعض الطامعين المحبطين ليظل الصف نقيا من الانتهازية ويبدأ عمل جديد على قاعدة جذرية.

لقد عاد  الدكتور منصف المرزوقي إلى المهمة التي يتقنها منذ بداية عمله السياسي وهو قيادة النضال الاجتماعي والحريات والتقدم. سيخلع قيد المنصب وسينزل إلى شارع يعرفه ويتبادلان المودة الصادقة والإيمان بالمشروع، ليجد قاعدة اصطفته واصطفاها في معركة صادقة ليكون البدء من صفر نظيف بلا نخب التزييف الإيديولوجي وبلا خوف أو طمع.

لقد خرج الشعب التونسي رغم هذه الانتخابات الموجعة بوثيقة الدستور، وهي التي ستكون قاعدة العمل السياسي المقبل. على أساسها وتحت سقفها سيكون العمل النضالي الطويل النفس لاجتثاث النظام القديم الذي سترهقه وسائله القديمة عندما يبدأ في إعادة استعمالها من جديد، وهو الذي لا يتقن غيرها مهما تظاهر بتطوير نفسه. وستكون أخطاؤه المكشوفة برغم جهاز التمويه الإعلامي الذي يوظفه كافية لزعزعة وهم الاستقرار الذي يعد به. ساعتها سيبدأ صعود الربوة من جديد؛ بغير روح سيزيف.
التعليقات (0)