كتاب عربي 21

الصين وأمريكا: التهيؤ للمعركة الكبرى في القرن الجديد

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
في خضم تركيزنا المشدد على ما يحدث في منطقتنا من تطورات يومية تقريبا هناك صراع استراتيجي دولي يطبخ على نار هادئة على مشارف المحيط الهادي. ولن يكون بدون آثار جدية وحاسمة بالنسبة لما يحدث في ظهرانينا.

يُنقل عن الزعيم الصيني دينغ تسياو بينغ خلال زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة عندما مسك بمقاليد بلاده نهاية السبعينات عندما سئل عن انتظاراته من الزيارة: "كل من اقتفى أثر الولايات المتحدة اصبح ثريا".

بكل تأكيد هناك تنافس استراتيجي بين الولايات المتحدة والصين ولكن قصته ليست ولا يمكن أن تكون قصة مكررة للحرب الباردة أو قصة مكررة للصراع الذي ميز الحربين بين قسمين أساسيين من أوروبا.  بيد أنه ومثلما كان الحال دائما لا يمكن أن تتعايش قوتين عظمتين بدون حد أدنى من الصراع.

مثلما أقر الكثيرون بما في ذلك التقرير المشترك بين "البنك الدولي" وإدارة "تخطيط التنمية" التابعة لمجلس الدولة الصيني والصادر سنة 2012 بعنوان "الصين 2030" فإن الصين تتهيأ لأن تكون "الاقتصاد الأكبر" في العالم قبل حلول العقد الثالث من القرن الجديد.  لم يكن الوضع الصيني ورديا، حيث مرت عبر القرن التاسع عشر والنصف الأول من العشرين بهزات ضخمة جعلت وجود الأمة الصينية في ذاته محل سؤال في سياق احتلال قوى إمبراطورية كبرى وتحكمها في قرار البلاد.

لكن لا يمكن باي حال مقارنة تاريخ الصين الحديث بتاريخ أي "دولة نامية" أخرى. إذ كانت الصين تمثل ثلث الاقتصاد العالمي عندما شرعت أوروبا في تكديس رأس المال في القرن السادس عشر.  ليست الصين جديدة على المواقع الاقتصادية الريادية.

يمكن اعتبار الزعيم الصيني التاريخي ماو تسي تونغ مهندس التاريخ الصيني المعاصر بلا منازع. لا يمكن أن نتخيل الصين التي تتهيأ للمتوقع كقوة عظمى في بداية القرن الجديد بدون معركة التحرر الوطني التي خاضها الصينيون بقيادة ماو ضد الاحتلال الياباني ثم الابتعاد عن تحكم القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في ذات الوقت الذي تم فيه حسم الصراع الداخلي لمصلحة الجبهة التي قادها الحزب الشيوعي الصيني  وانتهت بتأسيس "الجمهورية الشعبية الصينية" نهاية الأربعينات.

 لم تكن الدولة تحت ماو في افضل حالاتها لكنها أسست لبنية تحتية صناعية كبرى. وعندما دفع دينغ تسياو بينغ نهاية السبعينات نحو "الانفتاح الاقتصادي" على العالم تبدو النتائج الآن مبهرة. حوالي 500 صيني ابتعدوا عن دائرة الفقر، في سياق نمو سنوي قارب العشرة في المئة على مدى حوالي الثلاثة عقود. تجربة إنسانية غير مسبوقة بكل المقاييس.

كان دينغ تياو بينغ واضحا جدا، بناء علاقة استراتيجية قوية مع الولايات المتحدة هو المعنى الفعلي لشعار "الانفتاح الاقتصادي". تحولت الصين إلى نموذج عملاق لما كانت تحاول أن تكونه دول صغيرة حليفة لأمريكا (كوريا الجنوبية، تايوان...) في آسيا: ورشة ضخمة للصناعات  التحويلية تمثل المجال الأرخص للرأس مال الغربي التقليدي للاستثمار في يد عاملة جيدة التدرب وشديدة الانضباط. مثلت الصين النموذج الأنجح لسياسة هروب الراس مال الغربي المتأزم والمثقل بالالتزامات الاجتماعية لدولة الرعاية الغربية.  

النموذج الصيني ليس مثاليا. خلف طيف مكثف من الشعارات "الاشتراكية" وتحت قيادة شديدة التمركز لأبرز ما تبقى من منظومة الأحزاب الشيوعية في العالم يوجد على سبيل الذكر لا الحصر نظام "الهيوكو" الذي يتمثل باختصار في اعتبار الصين أقساما إدارية مختلفة لا تتحرك فيها اليد العاملة بحرية وتخضع بشكل كامل لقرار الإدارة، وحيث يمكن أن يُعتبر أي صيني "مهاجرا" وليس "مواطنا" كامل الحقوق اذا خرج عن المرجعية الإدارية والإقليمية التي ينتمى إليها. هذا النظام يستهدف على وجه الخصوص طبقة الفلاحين البعيدة في الأرياف. هذا تحديدا في بلد "ثورة العمال والفلاحين". ليس من الغريب اذا أن بعض التقديرات تعتبر "الفارق الطبقي" في الصين   أو مؤشر "جيني" الأكبر في العالم بعد جنوب إفريقيا. وعليه ليس من الغريب أيضا أن تكون هذه "الهوة الاجتماعية" السحيقة  الهاجس الأول لصانع القرار الصيني.  السؤال الأكبر: هل ستصبح الصين "القوة الأعظم" اقتصاديا بدخل فردي ضعيف لا يمكن أن يقارن بالدخل الفردي العادي في أي دولة غربية؟ التحدي الصيني هو القيام بالاثنين: مواصلة نسق التطور نحو الاقتصاد الأكبر عالميا ولكن بدخل فردي يقارب على الأقل متوسط دخل الفرد الغربي.

في مقابل كل ذلك لا يبدو أن الولايات المتحدة ستقبل بسلاسة الصعود الحتمي للعملاق الصيني.

لن يحتاج أحد إلى منجمين لكي يرى الاستتباعات الجيوسياسية لتفوق الصين على الولايات المتحدة اقتصاديا. وأمريكا ليست في سبات أو في غفلة. وفق هذا السياق تحديدا يمكن أن نفهم تغيير التركيز الاستراتيجي الأمريكي من منطقتنا العربية بشكل تدريجي، خاصة مع التوقعات الأمريكية القريبة لضمان الاكتفاء الذاتي الطاقي، وتحويله نحو من منطقة المحيط الهادي. حوالي 60? من القوات العسكرية الأمريكية يتم التخطيط إلى نقلها إلى آسيا. يتم بشكل حثيث تثبيت وإعادة تأسيس التحالفات الأمريكية مع أصدقاء قدامى من بينهم أستراليا والفلبين واليابان، بل ويتم تشجيع الأخيرة مثلا بعد سبات عسكري طويل لإعادة تنشيط قدراتها العسكرية. هناك قوس طويل يتم تشييده في مواجهة الصين. والأخيرة ليست في غفلة أيضا. هنا يمكن أن نفهم الإصرار الواضح لبيكين من اجل ترسيخ أقدامها في أي موطئ في مجالها الحيوي بما في ذلك بعض الجزر الصغيرة التي لا يمكن أن تُرى بالعين المجردة أحيانا على سطح خريطة العالم.

بيد أن العلاقة بين الطرفين وثيقة، بل عضوية. ليس لأن الصين كانت ورشة أمريكا، ولا تزال. وليس لأن الصين أصبحت بعد أزمة 2008 مستهلكا أساسيا لدى الولايات المتحدة. بل وخاصة لأن الصين هي المالك الأهم للدين الخارجي الأمريكي. هناك ما يسمه البعض "صيماريكا" (Chimerica)، أو المخلوق المشترك بين قوتين ليستا شبيهتين لكن لا يمكن الفصل بينهما في الأفق المنظور. بمعنى آخر لا يمكن أن يتصور أحد أن انهيار أحدهما يفيد الطرف الآخر.

وهذا تحديدا ما يطرح علاقة تنافس من نوع خاص بين القوتين الأعظم بحلول العقد الثالث للقرن الجديد. معركة الشطرنج الدولية الجديدة مثيرة ومشوقة وستأخذ وقتا طويلا. خاصة أننا إزاء لاعب صيني اخترع الشطرنج ويتميز بهدوء وصمت كبيرين

في كل الحالات نحن إزاء حدث ضخم اهم ميزاته أن القوة الأعظم في الاقتصاد الرأسمالي الدولي لن تكون غربية لأول مرة في التاريخ. والمثير للتوجس والقلق،  لن تحمل هذه القوة الجديدة ما يمكن اعتباره "قيما إنسانية" تخص الإيمان بالديمقراطية كأساس للحكم. وذلك التحدي الآخر: كيف يمكن الحفاظ على النظام السياسي الراهن مع صعود طبقة أثرياء جديدة (حوالي 200 ملياردير)  ليس لها علاقة مباشرة تذكر بطبقتي السياسيين والتكنوقراط الذين يقودون "الحزب الشيوعي الصيني".
التعليقات (0)