قضايا وآراء

لاهاي أو فضيحة الصهاينة ومتصهينة العرب والمسلمين

عادل بن عبد الله
الأناضول
الأناضول
منذ يومي 11 و12 كانون الثاني/ يناير الجاري بدأت محكمة العدل الدولية النظر في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد ساكنة غزة. ورغم أن الحرب الصهيو-صليبية على غزة قد كثّفت الوعي العربي-الإسلامي، بل الكوني، بعدم حيادية المنظمات الدولية وخضوعها لإملاءات الدول الكبرى، خاصة المعسكر الغربي بزعامة أمريكا، ورغم الوعي بعدم امتلاك الجهاز القضائي الدولي أية قوة إلزامية تتجاوز الإلزام القانوني الصرف، فإن غياب حق النقض (الفيتو) لقرارات المحكمة الدولية يعطي لتلك القرارات قوة رمزية أو اعتبارية أو أخلاقية ذات أثر كبير في تشكيل الرأي العام الدولي.

ولعلّ ما يعكس أهمية هذا الرهان هو قبول "إسرائيل" للمرة الأولى في تاريخها بالمثول أمام محكمة العدل "لدحض اتهامات جنوب أفريقيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية في الحرب مع حماس في غزة".

إن ما يثير الانتباه في كلام المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي هو استمرار منطق التضليل الذي تمارسه آلة الدعاية الصهيونية منذ تأسيس الكيان الغاصب. فـ"الاتهامات" (بحسب المتحدث) هي اتهامات جنوب أفريقيا وحدها وليست اتهامات يتقاسمها أغلب أحرار العالم ومنصفيه، والحرب -إن صح أننا أمام حرب وليس أمام خطط للتهجير أو للإبادة الجماعية- هي مع "حماس" و"غزة"، وليست حربا على فلسطين كلها.

رغم تأييد جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والعديد من الدول لدعوى جنوب أفريقيا، فإن مبادرة بلد نيلسون مانديلا بتقديم الدعوى هي وصمة عار على جبين الدول العربية والإسلامية. وإذا كانت جنوب أفريقيا قد أكدت بدعواها وفاءها لميراث الزعيم مانديلا الرافض للتمييز على أساس عنصري أو ديني (وهو جوهر دولة الكيان الصهيوني ومن قبله حكومة البيض في جنوب أفريقيا)، فإن صمت الدول العربية والإسلامية قد أكّد غياب القرار السيادي وخضوع تلك الدول لإملاءات الغرب، أو على الأقل الخوف من مواجهته بصورة مكشوفة

ونحن نرى أن الكيان لم يجازف بالمثول أمام محكمة العدل الدولية إلا لأنه يعلم عواقب الامتناع عن ذلك، فالامتناع عن التقاضي أمام المحكمة الدولية يعني ضمنيا أن "إسرائيل" تعترف بأن ما قامت به في غزة هو من باب الإبادة الجماعية. وبما أن السردية الصهيونية -بل تأسيس الكيان ذاته- قد قامت على ابتزاز العالم كله بالإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية، فإنّ أخوف ما تخاف منه إسرائيل هو أن يرى العالم أن "الضحية" قد أصبح هو الجلاد، وأن يقتنع الرأي العام العالمي -خاصة في دول الغرب المساندة للكيان- بأن "الصهيونية" ما هي إلا سردية فاشية "متهوّدة".

رغم تأييد جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والعديد من الدول لدعوى جنوب أفريقيا، فإن مبادرة بلد نيلسون مانديلا بتقديم الدعوى هي وصمة عار على جبين الدول العربية والإسلامية. وإذا كانت جنوب أفريقيا قد أكدت بدعواها وفاءها لميراث الزعيم مانديلا الرافض للتمييز على أساس عنصري أو ديني (وهو جوهر دولة الكيان الصهيوني ومن قبله حكومة البيض في جنوب أفريقيا)، فإن صمت الدول العربية والإسلامية قد أكّد غياب القرار السيادي وخضوع تلك الدول لإملاءات الغرب، أو على الأقل الخوف من مواجهته بصورة مكشوفة. فبعد أن رفضت الدول العربية والإسلامية المطبّعة قطع علاقاتها مع الكيان أو تعليقها على الأقل وطرد سفرائه، كما فعلت بعض الدول غير العربية وغير الإسلامية، كان من العبث انتظارها حيث تجلس جنوب أفريقيا في مواجهة الكيان ورُعاته في الغرب.

ولعل الأخطر من ذلك هو أن الحرب على غزة قد أكدت أن الصهيونية قد نجحت في بناء "إسرائيل الكبرى"، لكن بعيدا عن السردية التوراتية القائمة على احتلال الأرض، فالعالم العربي كله أصبح جزءا من "إسرائيل الكبرى" دون الحاجة إلى "تهويده". ذلك أن "الصهيونية" بما هي أعلى مراحل الإمبريالية قد تحولت إلى استراتيجية الاستعمار غير المباشر -الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي- التي أثبتت فعاليتها خلال العدوان على غزّة.

فكل الدول المطبعة لم تجد في "الإبادة" ما يدفعها إلى مراجعة خيار التطبيع والانحياز موضوعيا للكيان (بتزويده بالمواد الغذائية أو بالوقود أو بالتضييق على مرور المساعدات الإنسانية من معبر رفح)، أما تلك الدول التي هي في طريقها إلى التطبيع دون قيد أو شرط -مثل السعودية- فما زالت تردد تلك الجملة السفسطائية التي تعلم هي قبل غيرها زيفها واستحالة تطبيقها في ظل التذيل للمشروع الصهيوني: التطبيع في إطار حل الدولتين.

لقد أثبتت الحرب الصهيو-صليبية على غزة أن "المتصهينين العرب " هم الحليف الموضوعي لصهاينة اليهود و"الصليبيين الجدد"، فغزة لا تعاني من مشروع الإبادة الجماعية (والتهجير القسري الذي هو جزء من "صفقة القرن") إلا لتواطؤ الدول العربية "المتصهينة" وما تقدمه من خدمات علنية وسرية لهذا المشروع. فرغم مسارعة مصر إلى نفي ما وصفته بـ"الأكاذيب" التي ذكرها فريق الدفاع الإسرائيلي حول مسؤولية مصر عن منع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، فإن الخطاب الرسمي المصري يؤكد صدق تصريحات المحامي الصهيوني كريستوفر ستاكر. ألم يعلن زعيم الطغمة العسكرية الحاكمة أنّ على إسرائيل تعويض "سيناء" بصحراء النقب إن كانت تنوي تهجير أهل غزة؟ ألم يتهم النظام المصري الإخوان المسلمين بـ"التخابر مع حماس"؟ ألا تستطيع مصر -لو أرادت- تمرير المساعدات الإنسانية وفق القانون الدولي؟

إن بقاء العلاقات الديبلوماسية على حالها بين الكيان والنظام العسكري المصري هو أكبر دليل على أنّ مصر منحازة لمنطق الأمر الواقع، بل داعمة له بحكم حساباتها السياسية الداخلية ضد "حركة الإخوان"، فانتصار حماس هو -من منظور النظام العسكري- تهديد للأمن القومي المصري بحكم تداعياته المحتملة على ملف "الإخوان".

نحن على يقين بأن متصهينة العرب أحرص من صهاينة الغرب والكيان على عدم صدور ذلك الحكم التاريخي، بل هم أحرص من صهاينة العالم كله على عدم تنفيذ القرارات الاستعجالية في حال صدورها كما هو متوقع. فمشروع "التطبيع" كله مرتبط بعلو كلمة الصهيونية وهيمنة سرديتها من جهة، وفشل مشاريع المقاومة من جهة ثانية. ولن يكون ربط الصهيونية بالإبادة الجماعية في قرار قضائي دولي إلا انتصارا لسردية المقاومة

في المدى المنظور، تكمن أهمية الدعوى القضائية ضد الكيان في تلك الإجراءات الوقائية المؤقتة التسعة التي طالبت بها جنوب أفريقيا والتي قد يصدر القرار في شأنها خلال هذا الشهر. ولعل أهم تلك الإجراءات هو تعليق الأعمال القتالية ومنع الإبادة الجماعية والتهجير والامتناع عن التحريض، ومعاقبة الأفعال التي تشجع على الإبادة الجماعية وتدعو إليها. أمّا في المدى البعيد (أي بعد سنوات كما هو متوقع) فإن تجريم الكيان بتهمة الإبادة الجماعية سيكون قرارا تاريخيا له ما بعده. فرغم أن ذلك القرار سيصدر لا محالة بعد اكتمال الإبادة أو نجاح التهجير -لا قدر الله- أو بعد انتصار المقاومة وفرض واقع جديد في تاريخ الصراع ضد المشروع الصهيوني (كما يأمل كل أحرار العالم)، فإن ربط الكيان بـ"الإبادة الجماعية" سيضرب السردية الصهيونية في مقتل.

ونحن على يقين بأن متصهينة العرب أحرص من صهاينة الغرب والكيان على عدم صدور ذلك الحكم التاريخي، بل هم أحرص من صهاينة العالم كله على عدم تنفيذ القرارات الاستعجالية في حال صدورها كما هو متوقع. فمشروع "التطبيع" كله مرتبط بعلو كلمة الصهيونية وهيمنة سرديتها من جهة، وفشل مشاريع المقاومة من جهة ثانية. ولن يكون ربط الصهيونية بالإبادة الجماعية في قرار قضائي دولي إلا انتصارا لسردية المقاومة، ومشروعا لإعادة كتابة "التغريبة الفلسطينية" وما رافقها من عمليات الإبادة والتهجر القسري الذي رافق قيام الكيان على أعين الغرب.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)