قضايا وآراء

في علاقة "مشروع الرئيس" بمشروع النواة الصلبة للحكم في تونس

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
رغم ارتباط المشهد السياسي الجديد بشخص الرئيس قيس سعيد ومشروعه، سيكون من السطحية أن نجاريَ أنصار الرئيس في الحديث عن "تأسيس جديد" أو عن منظومة حكم مختلفة جذريا عن "المنظومة القديمة" من جهة الرساميل البشرية أو من جهة الخيارات والسياسات الكبرى. ولكن سيكون من السطحية أيضا أن نتبنى منطق المعارضة التي ترفض الاعتراف بوجود واقع سياسي جديد لا يقبل الاختزال في مكوّنات المنظومة القديمة واستراتيجياتها لمركزة السلطة والتخلص من مخرجات الربيع العربي 1، ولا يمكن أيضا فصله عن تلك المنظومة ومصالح حلفائها الإقليميين والدوليين.

إننا أمام منظومة حكم "هجينة"، أو لنقل منظومة غير متجانسة وقابلة بنيويا للتفكك بحكم انبنائها على مشروعين "متعامدين" (يعتمد كل منهما على الآخر) بصورة مؤقتة وتكتيكية لا بصورة استراتيجية دائمة: مشروع النواة الصلبة في منظومة الحكم القديمة لمركزة السلطة في قصر قرطاج وتهميش جميع الأجسام الوسيطة، ومشروع الرئيس قيس سعيد لإعادة هندسة المجتمع بالديمقراطية القاعدية ذات الخلفية اليسارية والسردية الشعبوية.

ولا شك في أن صمود التحالف بين المشروعين إلى هذه اللحظة لا يعني بالضرورة بقاءه عند تغير موازين القوة بين مكوّنيه وانتفاء الحاجة إلى "زواج المتعة"، الذي يبرره وجود عدو مشترك (الديمقراطية التمثيلية والإسلام السياسي) ويُشرعنه دور مشترك (فرض إملاءات صندوق النقد الدولي وخيار التطبيع) ويرعاه حليف مشترك (محور الثورات المضادة).
منظومة غير متجانسة وقابلة بنيويا للتفكك بحكم انبنائها على مشروعين "متعامدين" (يعتمد كل منهما على الآخر) بصورة مؤقتة وتكتيكية لا بصورة استراتيجية دائمة: مشروع النواة الصلبة في منظومة الحكم القديمة لمركزة السلطة في قصر قرطاج وتهميش جميع الأجسام الوسيطة، ومشروع الرئيس قيس سعيد لإعادة هندسة المجتمع بالديمقراطية القاعدية

بعد نجاح المنظومة القديمة في احتواء حركة النهضة (وهو واقع سياسي تتحمل فيه الحركة المسؤولية بحكم قابليتها للاحتواء)، وبعد أن فرضت عليها أن تدخل "الدولة" بشروطها بحيث لا تستطيع تعديل أي شيء في واقع السلطة ومنطقها الموروث من نظام المخلوع، كان على النواة الصلبة للحكم (المركّب الجهوي-المالي- الأمني) أن يحتوي الوافد الجديد على السلطة، أي الرئيس قيس سعيد. فهذا "الخبير الدستوري" -كما سوّقت له وسائل الإعلام- لم يكن هو مرشح المنظومة القديمة ولا خيارها الأمثل، ولكنّ وصوله إلى قصر قرطاج وضعها أمام واقع جديد ينبغي التعامل معه لضمان مصالحها ومصالح حلفائها الإقليميين والدوليين. لقد كان الرئيس قيس سعيد يطرح مشروعه بديلا للمنظومة كلها بدستورها ونظامها السياسي ونخبها في الحكم والمعارضة، وهو ما يُمثل -إن صدق صاحبه- تهديدا وجوديا لمصالح النواة الصلبة للحكم.

منذ وصوله إلى قصر قرطاج، كان واضحا أن البرنامج الانتخابي للرئيس (بناء الكتلة التاريخية، محاربة الفساد، تجريم التطبيع، تجاوز الصراعات الهوياتية.. الخ)، لم يكن إلا خطابا للاستهلاك الإعلامي قصد تحشيد الناخبين. وهو ما قدّم للنواة الصلبة للمنظومة القديمة قاعدة صلبة للالتقاء الموضوعي والتحالف مع ساكن قرطاج، بقصد توظيف مشروعه السياسي في تحقيق ما عجزت عنه صناديق الاقتراع والمضايقات الإعلامية والنقابات الأمنية والمدنية منذ المرحلة التأسيسية: الانقلاب على الانتقال الديمقراطي وإعادة هندسة المشهد العام بسردية "ثورية" وذات قاعدة شعبية عابرة للأيديولوجيات "الحداثية"، مع الحرص على استصحاب الصراعات الهوياتية واختزال هذه "الثورية" في خصوم المنظومة التقليديين (حركة النهضة وحلفاؤها)، وعدم المساس بالمصالح المادية والرمزية للنواة الصلبة للحكم وحلفائهم في الخارج.

لتحقيق ذلك، استعانت النواة الصلبة للحكم قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده بشبكاتها الزبونية وأجسامها الوظيفية التي تهيمن على الإعلام والنقابات والمجتمع المدني والكثير من الأحزاب اليسارية والقومية و"البورقيبية". فقد مهدت للانقلاب بالانحياز الواضح للرئيس وبشيطنة المؤسسات الدستورية والأجسام الوسيطة، خاصة البرلمان، كما عملت على اختزال المنظومة "الفاسدة" في حركة النهضة دون باقي الفاعلين الجماعيين من ورثة التجمع وحلفائهم في اليسار الثقافي.
واقع سياسي يدل على ضعف الرئيس في معادلات القوة داخل منظومة الحكم الحالية، ولكنه ضعف "مؤقت" سيحاول الرئيس تجاوزه بما يوفره له الدستور الجديد من صلاحيات مطلقة ومن حصانة تجعله خارج المساءلة والمحاسبة، وكذلك عبر "السلطة التشريعية" التي ستنبثق من الانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها

ولا شك في أن الرئيس كان سيعجز عن الانقلاب على الديمقراطية التمثيلية وفرض "تصحيح المسار" وإقصاء حركة النهضة -دون غيرها- من المواقع السلطوية، لولا ما قامت به النواة الصلبة للحكم تمهيدا لـ25 تموز/ يوليو. فقد تم تزييف الوعي الجماعي بصورة تجعله يقبل "مشروع" الرئيس (أو بالأحرى مشروع النواة الصلبة لمنظومة الحكم ورعاتها في الخارج) باعتباره بديلا لمنظومة الحكم "الفاسدة"، وما هو في الحقيقة إلا الواجهة المؤقتة لتلك النواة الصلبة في ظل واقع اقتصادي، وتحولات إقليمية ودولية استدعت سردية سلطوية جديدة لفرض الإملاءات الاقتصادية والالتحاق بركب التطبيع.

إن الحديث عن التقاء موضوعي أو تقاطع بين الرئيس والنواة الصلبة لمنظومة الحكم، لا ينفي وجود خلافات كبيرة بينهما، فالرئيس يحمل مشروعا سياسيا يبدو أنه يعتبره ضربا من "الرسالة" أو علة الوجود. وهو يحتاج في تحقيق ذلك إلى نخب جديدة، ولكنه إلى حد هذه اللحظة لم يستطع إلا فرض القليل من أنصاره في مراكز القرار، وما زال يحكم بالرأسمال البشري للمنظومة القديمة، مع ما يعنيه ذلك من هشاشة الولاء للرئيس ومشروعه.

وهو واقع سياسي يدل على ضعف الرئيس في معادلات القوة داخل منظومة الحكم الحالية، ولكنه ضعف "مؤقت" سيحاول الرئيس تجاوزه بما يوفره له الدستور الجديد من صلاحيات مطلقة ومن حصانة تجعله خارج المساءلة والمحاسبة، وكذلك عبر "السلطة التشريعية" التي ستنبثق من الانتخابات البرلمانية السابقة لأوانها. فسيطرة الرئيس على المجلس النيابي (عبر تصعيد المنتمين إلى تنسيقياته) سيعطي لمشروعه "شرعية" أقوى من شرعية المراسيم، كما قد يغريه هذا الواقع الجديد بفك الارتباط مع النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة أو على الأقل تعديل العلاقة المختلة معها. وهي فرضية لا يمكن أن تخفى على "حلفائه" وستدفعهم في الخطوة الأولى إلى محاولة السيطرة على البرلمان القادم، ولكنها ستدفعهم إذا ما فشلوا في ذلك - وأحسوا بتهديد جدي لموقعهم في صناعة القرار- إلى تعديل الموقف جذريا من الرئيس ومشروعه.
الرئيس لن يربح شيئا من إعادة هندسة المشهد السياسي وتمركز السلطات بين يديه إلا بمشروعية الإنجاز. فالشرعية الدستورية المفروضة بمنطق القوة -أي بدعم نشط أو بمعارضة شكلية من مكونات المنظومة القديمة- لن تستطيع الصمود أمام تأزم الواقع الاقتصادي، وسيفقد الرئيس جزءا كبيرا من قاعدته الشعبية التي تبرر تحالف المنظومة القديمة معه. وإذا ما فقد الرئيس ورقة التفاوض الأهم مع تلك المنظومة، انتفت الحاجة إليه

يكمن التناقض الجوهري بين مشروع الرئيس ومشروع النواة الصلبة للمنظومة القديمة في طبيعة حاجة كل منهما إلى الآخر. فالرئيس يحتاج المنظومة لفرض بديله السياسي الذي يبشر بـ"تحوّل نوعي" في التاريخ الإنساني عبر بناء نظام مختلف للحكم ولإنتاج الثروات وتوزيعها، ولكن المنظومة -الأقل طوباوية والأكثر براغماتية- تحتاج الرئيس لمركزة السلطة بقصد تمرير الإملاءات الاقتصادية ومشروع التطبيع دون المساس بمصالحها المادية، أي بتحميل الفئات الأكثر هشاشة كلفة "الإصلاح الاقتصادي" وعدم المساس بتشريعات "الدولة الريعية". وهذه المنظومة لا تأبه كثيرا بـ"الديمقراطية"، ولذلك لا يزعجها نفي الحاجة إلى الأجسام الوسيطة. إنها تدعم الرئيس سياسيا، ولكنها تضع أمامه خطوطا حُمْرا في ما يتعلق بالاقتصاد السياسي وتشريعاته "الكليبتوقراطية" (منظومة "حكم اللصوص").

من المؤكد أن الرئيس لن يربح شيئا من إعادة هندسة المشهد السياسي وتمركز السلطات بين يديه إلا بمشروعية الإنجاز. فالشرعية الدستورية المفروضة بمنطق القوة -أي بدعم نشط أو بمعارضة شكلية من مكونات المنظومة القديمة- لن تستطيع الصمود أمام تأزم الواقع الاقتصادي، وسيفقد الرئيس جزءا كبيرا من قاعدته الشعبية التي تبرر تحالف المنظومة القديمة معه. وإذا ما فقد الرئيس ورقة التفاوض الأهم مع تلك المنظومة، انتفت الحاجة إليه. وهو ما سيعني واقعيا فك الارتباط بين مكوّني منظومة الحكم، مع ما يفتحه ذلك من سيناريوهات سياسية لا يمكن التنبؤ بمساراتها ومآلاتها في ظل التحولات الجيواستراتيجية التي تحكم المشهد الدولي، وتعيد بناء علاقات القوة بين الأحلاف الدولية المهيمنة عليه.

twitter.com/adel_arabi21
0
التعليقات (0)