أفكَار

الإسلاميون والمواثيق الدولية.. مداخل ومنطلقات التعاطي

الإسلاميون المغاربة قدموا اجتهادات متقدمة في الموقف من عدد من المواثيق الدولية بحكم التجربة
الإسلاميون المغاربة قدموا اجتهادات متقدمة في الموقف من عدد من المواثيق الدولية بحكم التجربة

تطرح المواثيق الدولية خاصة منها ما يتعلق بالمرأة والأسرة والطفولة تحديات حقيقية على الحركة الإسلامية، فهي من جهة تختبر موقفها من الغرب، ومن جهة ثانية تعيد إلى الواجهة مفهوم التجديد والاجتهاد في التعاطي مع جملة من القضايا التي تطرحها هذه المواثيق في شكل "حقوق كونية".

وإذا كانت الحركة الإسلامية الوسطية بمختلف مكوناتها وأطيافها تجاوزت منطق الرفض الميكانيكي لكل ما يصدر من الغرب من أفكار وفلسفات ومشاريع ومواثيق، فإن موقفها من الهيمنة الغربية ومحاولة الغرب تنميط العالم الإسلامي وفرض نموذج ثقافي وقيمي من غير أي اعتبار لقضايا السيادة الثقافية لا زال قائما. ولعل ما تطرحه المواثيق الدولية بهذا الشأن، وعلى الخصوص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، يظهر المدى الذي وصلت إليه الحركة الإسلامية في التعاطي الإيجابي مع معظم ما جاء من مقتضيات في هذه الاتفاقية، وفي المقابل أيضا التحفظ على بعض المقتضيات ورفض الضغوط الغربية بهذا الشأن خاصة في القضايا ذات العلاقة بالسيادة الثقافية. 

الحركة الإسلامية والاتفاقيات الدولية.. مبادئ عامة ناظمة

يفيد الاستقراء لأدبيات الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها أنها تشترك في نقطة واحدة حاسمة في تقييمها لهذه الاتفاقيات، وهي أن المس بالمرجعية يعتبر عندها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن ما عداه فهو محل اجتهاد وتجديد. لكن ثمة اختلاف مقدر في تقييم الحركات الإسلامية لهذه الاتفاقيات على الجملة، فبعض هذه الحركات ـ نموذج الإخوان المسلمون والحركات السلفية على العموم ـ تنطلق من رفض عام لبنود هذه الاتفاقيات، وترى أن مسها بعض بنودها بالمرجعية الإسلامية يجعلها كاملة موضع رفض وتنديد، فيما ترى أطياف أخرى من الحركات الإسلامية ـ الحركة الإسلامية المغربية والتونسية مثلا ـ أن تقييم المواثيق الدولية ينبغي أن يتم بشكل موضوعي يراعي الأهداف التي رفعتها، ويراعي طبيعة الخلافات في السياقات الثقافية وما يتطلبه ذلك من تأويل بعض البنود أو تفسيرها أو تقييم تصريح بشأنها، أو التحفظ عليها وفق ما يضمنه القانون الدولي. 

فترى هذه الحركات أن المواثيق الدولية ينبغي تثمينها والنضال من أجل إقرارها بالنظر إلى الأهداف التي رفعتها في ديباجتها، خاصة أن النظم السياسية المستبدة في العالم العربي تمنع أي تقدم للمجتمع، وما دامت هذه المواثيق تساهم في الضغط على هذه الأنظمة لدفع المجتمع نحو التطور، فينبغي على الحركة الإسلامية ألا تسير في الاتجاه المقابل، إلا ما كان فيه تعارض صريح مع مقتضيات المرجعية الإسلامية فإن القانون الدولي يوفر الضمانات للدول المنظمة أو التي صادقت كافة الآليات الضرورية للدفاع عن سيادتها الثقافية والدينية. بل إن بعض الأطياف من الحركة الإسلامية ترى أن بعض التحفظات التي نسبت إلى المرجعية الإسلامية لم يكن من الضرورة أن تنسب إليها على اعتبار أن كثيرا من المقتضيات التشريعية تستند إلى الاجتهاد في فهم النصوص وليس إلى النص الصريح نفسه، وأنه بالإمكان مراجعتها بناء على تفعيل آلية الاجتهاد لتصير من جهة منسجمة مع مقتضيات اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز وفي نفس الوقت غير متعارضة مع الشريعة الإسلامية.

وما دامت اتفاقية فيينا لسنة 1969 أعطت الدول والشعوب حق التحفظ فيما تراه غير متناسب مع التشريعات الوطنية أو مخالفا للخصوصيات الثقافية لهذا البلدان، فإن إعمال حق التحفظ يبقى حقا محفوظا من حقوق الدول التي أقرتها هذه الاتفاقية، ولذلك ترى معظم الحركات الإسلامية أنه لا ينبغي لهذه الدول أن تخجل من ممارسة حقها في التحفظ، كما لا ينبغي لبعض الجمعيات الحقوقية المحلية الضاغطة أن تصور بلدانها كما لو كانت دولا غير ممتثلة للاتفاقيات الدولية، ما دامت تمارس حقا من حقوقها وهو التحفظ.

الحركة الإسلامية المغربية.. بين مواجهة الضغوط وتطوير آليات التدافع

باستقراء مواقف وبيانات الحركات الإسلامية بخصوص الاتفاقيات الدولية يمكن أن نلحظ وجود أربعة مداخل للتعامل مع الاتفاقيات الدولية، ومواجهة الضغوط الغربية بصددها:

1 ـ مدخل الرفض الميكانيكي: وينطلق من خلفية أن هذه الاتفاقيات جاءت في الأصل لتنسف النموذج القيمي والمرجعي الإسلامي وتفرض نموذجا مغايرا في كل التفاصيل، وأنه لا وجود لقيم مشتركة في هذه الاتفاقيات، وإنما يستعمل ذلك كذريعة لنسف النموذج المعياري الإسلامي سواء فيما يخص العلاقة الأسرية أو المرأة أو الطفل.

2 ـ المدخل التقليدي: تفعيل مبدأ التحفظ: تحاول الحركة الإسلامية التأسيس لهذا المدخل من ثلاثة منطلقات:

أ ـ منطلق أولوية المرجعية الإسلامية على ما عداها من المرجعيات، ويحاول هذا المدخل أن يتحجج بالمقتضيات الدستورية التي تنص على إسلامية الدولة أو  تنص على أن الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع لتؤكد سمو وعلوية التشريع الإسلامي على ما عداه، ولتفرض مواءمة هذه الاتفاقيات لمقتضيات هذا التشريع لا العكس، ويشترك هذا المدخل مع مدخل الفرض في كونهما معا يدفعان بحجة المخالفة للشريعة الإسلامية لرفض هذه الاتفاقيات أو بعض بنودها. ويمثل على ذلك بموقف الإخوان في مصر والأردن، فقد رفضت الحركة الإسلامية في الأردن اتفاقية سيداو بدعوى تعارض مقرراتها مع مبادئ الشريعة الإسلامية، واعتبر حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، أن هذا الاتفاقية "تتناقض مع تشريعات وردت في القرآن الكريم".

 

يفيد الاستقراء لأدبيات الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها أنها تشترك في نقطة واحدة حاسمة في تقييمها لهذه الاتفاقيات، وهي أن المس بالمرجعية يعتبر عندها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن ما عداه فهو محل اجتهاد وتجديد.

 



وأكد الحزب في بيانٍ موجَّه للحكومة الأردنية رفضه اتفاقية سيداو "استناداً إلى مبادئ الدين الإسلامي وقيم المجتمع الأردني".

ب ـ منطلق الحق في التحفظ: بحيث تستند الحركة الإسلامية في هذا الصدد على تاريخية هذه المواثيق التي تم إقرارها من غير مشاركة لمعظم الدول العربية والإسلامية، وعلى اتفاقية فيينا التي تعطي للدول حق التحفظ فيما تراه معارضا لمرجعيتها أو خصوصيتها الثقافية، وأن من حق الدول أن تمارس هذا الحق أو تفسر بعض البنود حسب سياقها الثقافي أو تعلن عن تصريح وبيان خاص بها يبين موقفها من بعض البنود المخالفة للشريعة أو التشريعات المحلية بشكل عام. وتتشابه الحركة الإسلامية في هذا المدخل مع عمل الدول العربية التي اتجهت منذ الستينيات إلى إعمال هذا المبدأ عند التصديق أو الانضمام لبعض الاتفاقيات الدولية. ويمكن أن نمثل على ذلك بموقف مجلس علماء الإخوان في الأردن الذي أصدر بيانا في الموضوع طالب فيه الحكومة بإبقاء التحفظات على كل المواد والبنود المخالفة للشريعة الإسلامية في اتفاقية "سيداو" ودعا إلى رفض هذه الاتفاقيات التي اعتبرها مخالفة لمبادئ الإسلام، مشيرا إلى "أن الواجب الشرعي على كل مسلم ومسلمة رفض هذه الاتفاقيات رفضا قاطعا، بكل ما أوتي من قوة، وذلك لمخالفتها للإسلام".

ج ـ منطلق عمل الدول بمبدأ التحفظ: تستند الحركة الإسلامية في ذلك لتحفظات العديد من الدول بما في ذلك الدول الأوروبية، والتي تعطل الأثر القانوني لكثير من المقتضيات بحجة معارضتها لخصوصية البلد، أو لأن تشريعات هذا البلد يضمن الحق للمرأة أكثر مما تضمنه هذه المواثيق.

3 ـ مدخل الاجتهاد والمواءمة: هو الدعوة إلى إعادة قراءة مقتضيات هذه الاتفاقيات، وعرضها على الاجتهاد المقاصدي للنظر في إمكان الملاءمة بينها وبين مقتضيات المرجعية الإسلامية.

ويمكن أن ندرج ضمن هذا السياق عددا من الاجتهادات التي قدمتها الحركة الإسلامية المغربية، سواء تعلق الأمر بموضوع حرية المعتقد، أو حرية الإفطار في شهر رمضان، أو عقوبة الإعدام، أو موضوع الإجهاض، أو ما يرتبط بالعلاقات الجنسية الرضائية خارج مؤسسة الزواج.

ويمكن أن نسوق في هذا الاتجاه الاجتهادات التي قدمها الدكتور أحمد الريسوني، إذ قدم في دراسته لحرية المعتقد وعقوبة الردة اجتهادا معاصرا، خلص منه إلى أن الشرع لم يرتب أي عقوبة دنيوية عن تغيير المعتقد، وأن الإسلام رعى هذه الحرية وضمنها، وأن المقصود بالردة في تاريخ الإسلام، لا علاقة له بالمطلق بتغيير المعتقد، وإنما له علاقة بالخروج على الدولة أو التآمر عليها مع جهات أجنبية وتنظيم حركة مسلحة ضدها.

بل إنه ذهب أبعد من ذلك، فاعتبر أن حرية المعتقد، هي مقصد كلي في الإسلام، لا سبيل إلى نقضه أو الإخلال به.

كما قدم رأيا مغايرا لما درجت عليه الحركات الإسلامية في موضوع الإفطار العلني في شهر رمضان، معتبرا أن قضية الصيام والإفطار هي قضية دينية تخص علاقة الإنسان بربه، وأن السلطة لا دخل لها في التقليب عن إيمان الأفراد، وأن التنصيص الشرعي على الأعذار للإفطار في رمضان، يجعل من التفتيش في الصائمين، أمرا متعسفا، إذ ينبغي حمل إفطار هؤلاء على أنهم من أصحاب الأعذار الشرعية.

أما في عقوبة الإعدام، فذهب الدكتور سعد الدين العثماني إلى أن العقوبات في الإسلام هي من تصرفات الإمام يجريها بحسب المصالح، وأن العقوبات التي نص عليها الإسلام هي مجرد وسائل لحفظ الأمن والنظام العام، وأنه يمكن العدول عنها بوسائل أخرى، يراها الإمام أنسب لتحقيق هذه المقاصد، وأن نمط العقوبات التي أقرها الإسلام، كانت تساير الوسائل التي كانت معتادة في تلك المرحلة، وأنه لا ينبغي الجمود على نفس الوسائل، بل وجب أن يترك الأمر لتقدير السياسة الشرعية، في النظر في العقوبات الموافقة للعصر، والتي تحقق مقصود الشريعة.

وفي السياق نفسه، كتب الأستاذ محمد يتيم مؤخرا مقالا، يدعو فيه إلى مراجعة عقوبة الإعدام، ويرى أن مقاصد الشرع تمضي في اتجاه التضييق على ثقافة القتل، وأن القصاص شرع في هذا السياق، وأنه مجرد آلية تدرجية للقطع مع ثقافة القتل، وأن القصاص نفسه آيل إلى الانقراض، كما انقرضت أحكام وردت في الشرع مثل ملك اليمين اتجهت مقاصد الشريعة بشكل تدريجي إلى التضييق عليها.

وفي موضوع الإجهاض، قدم الدكتور سعد الدين العثماني، اجتهادا مرنا، حاول من خلاله توسيع الشروط التي يعتبر العمل به جائزا في القانون الجنائي (الفصل 453)، بإدخال جملة حالات، كأن يحصل الحمل من اغتصاب أو زنى محارم، فتم اقتراح إباحة الإجهاض في الأسابيع الستة الأولى من الحمل، أو إذا ثبت بواسطة الفحوص الطبية والوسائل الآلية أو المختبرية أن الجنين مصاب بأمراض جينية غير قابلة للعلاج أو مصاب بتشوهات خطيرة غير قابلة للعلاج، بشرط أن يتم الإجهاض خلال المائة والعشرين يوما الأولى من الحمل، أو إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم بإذن من الزوج، بشرط إذن من الطبيب.
 
أما بالنسبة للعلاقات الجنسية الرضائية خارج الزواج، والتي يكيفها القانون الجنائي باعتبارها جريمة فساد، فقد عبرت أمينة ماء العينين القيادية في حزب العدالة والتنمية عن رفضها لأن تصبح السلطة وصية على الحياة الفردية للمواطنين، وانتقدت بشدة تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين الأفراد، كيفما كان شكلها، ما دام هذا السلوك لم ينتقل إلى الفضاء العام، فيما طالب القيادي من نفس الحزب، ورئيس منتدى الكرامة (حقوقي) بإعادة النظر في صياغة الفصول التي تجرم العلاقات الجنسية الرضائية خارج الزواج، مركزا على ضرورة ترتيب الضمانات الأساسية الضرورية التي تمكن من رفع شطط السلطة وتعسفها في تطبيق القانون ضد المعارضين والمخالفين.

وعلى العموم، فقد دفعت تجربة التدبير الحكومي عددا من قيادات الإسلاميين إلى الخروج بمواقف اجتهادية، لا تساير النسق العام الذي عرف داخل أدبياتهم، واتجهت هذه الآراء إلى التكيف مع مطالب الحقوقيين، أو على الأقل أخذ مواقف وسط بين مقتضيات القانون الجنائي، وبين مطالب الحقوقيين الذين يستندون فيها على المرجعية الحقوقية الدولية.

4ـ مدخل تطوير آليات التدافع: وهو الذي تقصد به الحركة الإسلامية "الانتقال من مرحلة ردود الأفعال ومنطق الاحتجاج والمعارضة، إلى مرحلة الفعل والمبادرة، واقتحام هذا الميدان الجديد، والانفتاح على الفضاءات التي انتقل إليها مجال التدافع، وتهيئ الأطر والكفاءات القادرة والكفيلة بحمل هذا التحدي إلى مداه. وقد تفردت الحركة الإسلامية المغربية بالتنظير لهذا المدخل، فما ذكره الأستاذ محمد الحمداوي في كتابه (الرسالية)، فالتدافع، سيبقى مفتوحا بين جماهير الأمة المعتزة بثوابتها الحضارية والثقافية والدينية والمتشبثة بحاكمية المرجعية الإسلامية على ما سواها من المرجعيات، وبين أقلية مسنودة من الخارج، ومستقوية ببعض مراكز النفوذ تمارس ضغوطها لفرض حاكمية مرجعية المواثيق الدولية، خاصة وأن هذه الأقليات ـ يضيف ـ انتقلت إلى ساحات أخرى أكثر تأثيرا وأمضى سلاحا، وهي ساحات المنظمات الدولية وأروقة برلمانات القوى العظمى ودهاليز مراكز البحث ومجموعات التفكير لتدبيج تقارير تبتز الدول وترهب قوى المجتمع، عبر تعبئة بعض وسائل الإعلام، وإعداد الملفات، وصياغة المذكرات، وذلك باستغلال بعض القضايا المجتمعية، كمدخل لتلك المعارك، مثل قضية المرأة، وقضية الحريات الفردية، والأمازيغية، وغيرها من القضايا الحساسة.

الحركة الإسلامية وفقر النضال على المستوى الأممي:

لا يبدو للراصد من خلال تتبع مجالات اشتغال الحركة الإسلامية أن النضال على الواجهة الأممية يدخل ضمن رهاناتها الآنية، ولا يبدو من خلال تتبع اختياراتها أن الأمر يتعلق بموقف مبدئي رافض، بل ربما يعود ذلك إلى وضعيتها السياسية، وانشغال عملها النسائي بقضايا التربية والعمل الاجتماعي الخيري، وجنينية عملها الحقوقي. وتكشف إشارة الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح المتعلقة بضرورة قضية تطوير آليات التدافع، وحديثه عن الساحات الأكثر تأثيرا في صناعة السياسات ذات العلاقة بالقضايا الحساسة مثل قضية المرأة، أن الحركات الإسلامية لا تزال في عتبة نضج الموقف بخصوص تفعيل هذه الجبهة في عملية التدافع، وهي الجبهة التي تتطلب توفير مجموعة من الشروط ليس أقلها توفير الكفاءات العلمية والتواصلية الممتلكة لخطاب العالمين المؤهلة والقادرة على خوض معركة التدافع في هذه الساحة.


التعليقات (1)
عابر
الجمعة، 29-04-2022 06:39 م
تقصد الإسلاميون المزيفون يا بلال؟ ويل لك من كتابة الزور.
الأكثر قراءة اليوم