هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"يُقتلُ الجنود البريطانيون ويقاتلون دون أي سبب يمكن أن يفهمه أحد في بريطانيا، وهم يعدون أنفسهم للرحيل، لقد غادرنا عدن بطريقة مُذِلّة، وكانت الفرقة الموسيقية تعزف" لن نعود مرة أخرى" والدموع تنهمر من عيوننا. لقد غادرنا عدن كاللصوص في ظلمة الليل، مخلفين وراءنا تمثال الملكة فكتوريا، الذي يرقد في زاوية المتحف الخلفية".
هذا الوصف الحرفي لرحيل البريطانيين من عدن نقله الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد عن الجنرال "لنت" قائد الجيش "الاتحادي" المحتل في كتابه (ذاكرة وطن.. عدن من الاحتلال إلى الاستقلال ـ دار رياض نجيب الريس ـ بيروت عام 2018)، وذلك بعد احتلال دام بحسب المصدر نفسه (128 عاما وعشرة أشهر وعشرة أيام).
ولعل الحسبة هنا تبدأ بعد حادثة "دوريا دولت" وسيطرة الكابتن هينيس على عدن عام 1839، ولربما التأريخ الاستعماري يبدأ منذ استقرار الحكومة البريطانية في المدينة.
بكاء المستعمر المهزوم في اليمن يشبه بكاء المستعمرين المهزومين في كل مكان، من فيتنام وكمبوديا إلى الجزائر ودول أخرى وضعت شعوبها حدا لسيطرة الامبراطوريات الأوروبية المطلقة على العالم. سيترافق الرحيل البريطاني "المُذِلّ" مع هزيمة "جبهة التحرير" التي تأثرت بخسارة مصر الناصرية في حرب حزيران/ يونيو 1967 فضلا عن سيطرة الجبهة القومية على معظم مناطق الجنوب، وفرض ميزان قوى على الأرض يعزز سلطة الرابحين ويقصي الخاسرين.
كان هذا الرحيل الاستعماري الدامع، يصب الماء في طاحونة علي سالم البيض والتيار المتشدد في الجبهة القومية، الذي اعترض أيضا على التفاوض مع ممثلين عن "جبهة التحرير" التي تضم بقايا سلطنات وسلاطين واحتفظ بالسلطة منفردا.
سيتسلم البيض وزارة الدفاع في حكومة الاستقلال الأولى، وهو منصب سيادي رفيع المستوى، وسيواصل في الوزارة نهجه الراديكالي، إذ قرر "دون أن يستشير أحدا"، طرد الطيارين والخبراء البريطانيين من وزارة الدفاع. ويلاحظ الرئيس الأسبق علي ناصر محمد (المصدر نفسه) أن قحطان الشعبي (رئيس أول جمهورية جنوبية مستقلة) قد علم بالقرار من الإذاعة بعد تنفيذه.
ويأخذ أبو بكر العطاس (خلال حديث لقناة العربية في أيلول / سبتمبر 2021) على البيض تأثره بنايف حواتمة (الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) في اتخاذ هذا القرار الذي صدر بعد "اجتماع بين حواتمة والبيض". هنا يريد العطاس القول إن وزير الدفاع تلقى أمرا من مرجع غير يمني، أو أنه كان يخضع لتأثير المُنَظِّر الأيديولوجي الأردني ـ الفلسطيني، علما أن العطاس ما كان شاهد عيان لتلك الفترة، فهو كان يدرس الهندسة الكهربائية في القاهرة مع البيض الذي درس الهندسة الميكانيكية، لكنه لم يشارك في حرب التحرير وبقي في العاصمة المصرية حتى أواخر العام 1968، أي إلى ما بعد الاستقلال، وقد رشحه البيض في فترة لاحقة وزيرا للأشغال بوصفه كادرا تكنوقراطيا لا شأن له بالعمل الفدائي. والراجح أن العطاس ردد ما رواه منافسو البيض في حينه.
هذا التفسير لقرار البيض الذي سيتبعه كظله وسيستخدم حجة في وصف مواقفه اللاحقة، ينبغي إدراجه في سياق الأحداث التي وقعت ذلك العام.
الراجح أن وزير الدفاع الشاب ما كان يحتاج لإلهام أو لنصيحة من أحد في توجهه الراديكالي الذي طبع مواقفه في مناسبات عديدة. لماذا يكون البيض معتدلا أكثر من الوفد اليمني المفاوض في جنيف الذي رفض كل أشكال المساومة مع المحتل، بل أخفق في حمله على دفع تعويضات للشعب اليمني المقتول والمنهوب، خلال أكثر من 128، ولماذا يكون البيض معتدلا ومساوما طالما أن قيادة الجبهة القومية كانت تريد رحيل المستعمر بلا قيد أو شرط. هذا المستعمر الذي رفض بيع الحكومة الجديدة قطع غيار للطائرات اليمنية، واشترط الاحتفاظ بقاعدة بحرية في عدن لمساعدة الدولة المقبلة.
أغلب الظن أن البيض ورفاقه الراديكاليين تصرفوا كما يتصرف الثوريون لحظة انتصارهم، أي بالاستناد إلى بندقيتهم ونظريتهم الثورية وهي خبرتهم الأولى في الحكم. وللعلم كان جيفارا، الثائر الجميل والأيقونة، يقتل بمسدسه عملاء النظام الكوبي السابق دون محاكمة، وكان "جان بول مارا" أحد أبرز قادة اليعاقبة في الثورة البورجوازية الفرنسية 1789، يدعو إلى عقاب كل الخصوم وسجنهم وتصفيتهم بسبب تآمرهم على الثورة، ويصل حجم هؤلاء إلى أكثر من مئة ألف فرنسي، وقد سِيقَ الآلاف منهم إلى المقصلة. وكان الثوار الفيتناميون يقطعون أيادي مواطنيهم الذين يتلقون مساعدات أمريكية ويقيمون من الأيادي المقطوعة هضبة صغيرة. كان هذا منطق الثورات في حينه، ومن ثم لم يكن قرار طرد الطيارين البريطانيين مستغربا، بل ربما شديد الاعتدال إذا ما قيس بقرارات ومواقف الثوار في لحظات انتصارهم الأولى.
لم يكن ثوار الجنوب اليمني بحاجة لأوامر خارجية حتى يتخذوا المواقف التي اتخذوها. لقد نفذوا سياسات مستمدة من استراتيجية استقلال مطلقة. من حسن الحظ أن البيض ورفاقه كانوا راديكاليين ولم يسمحوا بتحول الاستعمار القديم في عدن إلى استعمار جديد يسيطر عبر الخبراء والمستشارين بدعوى التعاون المزعوم و"الديمقراطية" ومن دون كلفة. ومن حسن الحظ أن راديكاليتهم أدت إلى توحيد السلطنات والمشيخات التي أرادها المستعمر بيئة لحروب وصراعات داخلية، تمتد لأبد الدهر على مضيق "باب المندب" الاستراتيجي الدولي.
أما حواتمة، فإنه لم يكن "ملهم البيض" كما يوحي العطاس، وإنما أحد رفاقه القادة في حركة "القوميين العرب" الذين انشقوا عن المنظمة بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 وطرحوا الماركسية بديلا عن "القومية المهزومة" في الحرب، ورفعوا شعارهم الشهير "تحرير فلسطين رهن بتغيير الأنظمة العربية التي لولاها لما وُجِدتْ دولة إسرائيل".
البيض زمن الكفاح المسلح ضد البريطانيين
كان أنصار التيار الماركسي في الحركة يتظاهرون في عمان ضد جمال عبد الناصر منشدين "عبدالناصر يا جبان يا عميل الأمريكان"، وكان من الطبيعي أن يتخذ جناح "القوميين العرب" الماركسي في اليمن المواقف نفسها، وقد تمكن هذا التيار الذي ضم في حينه رموزا مهمة من ضمنها البيض، تمكن من إقصاء الرئيس قحطان الشعبي الذي انقلب على قرارات الجبهة القومية، ورفض تحول الحركة بالاتجاه الماركسي، كما رفض تأسيس حزب اشتراكي وتغيير اسم الجمهورية لتصبح اشتراكية.
حاول التيار الماركسي في "حركة القوميين العرب" قلب نظام الحكم في الأردن وإسقاط الحكم في لبنان، وحاول البيض ورفاقه بعد إسقاط قحطان، الإطاحة بالحكومات الخليجية والحكم في شمال اليمن، لكن مساعيهم باءت بالفشل.
في هذا السياق، ينبغي أن تفهم إجراءات البيض في وزارة الدفاع الأولى في العهد الاستقلالي، وفي هذا السياق أيضا يجب أن تدرج أدواره في دعم ثوار ظفار والبحرين والإمارات والخليج عموما، بل المعارضة الماركسية الإيرانية ممثلة بحزب تودة الشيوعي وبمجاهدي وبفدائي "خلق"، ومنهم مجتبى طالقاني نجل آية الله طالقاني أحد آيات الثورة الإسلامية الإيرانية الكبار، وقد حدثني عن إصرار البيض على دعم المعارضة الإيرانية ضد الشاه في حينه.
ولن يقتصر الأمر على دعم الثورات والأحزاب الماركسية وإنما أيضا حماية لاجئيها ومن ضمنهم الدكتور توفيق رشدي المعارض الشيوعي العراقي الذي اغتاله (حزيران ـ يونيو 1979 ) القنصل العراقي في عدن ما أدى إلى ضرب السفارة العراقية بالمدافع وخروج القاتل ومن معه من المبنى رافعي الراية البيضاء ومحاكمتهم وقطع العلاقات الدبلوماسية مع العراق.
بعد الإطاحة بقحطان الشعبي والتيار الذي كان يصنف في خانة اليمين في "الجبهة القومية"، تولى الحكم الراديكاليون بزعامة سالم ربيع علي (سالمين)، المتقشف الذي كان يميل إلى التيار الماوي. وللعلم كان رئيس الدولة الجديد يرفض تمديد الماء لبيت والدته، ويصر على أن تتزود بحاجتها من مياه بئر مجاور مثلها مثل بقية الناس في قريتها.
في ظل هذا الرئيس الراديكالي الذي ساوى بين كل الناس وكانوا يهتفون له "سالمين قُدّام قُدّام سالمين لسنا أخدام"، سيتولى البيض مناصب عديدة أولها وزارة الخارجية.
في وازرة الخارجية، اتخذ البيض إجراءات متناسبة مع سياسة الحكومة الجديدة ومن ضمنها قطع العلاقات مع ألمانيا الغربية الأطلسية والاعتراف بألمانيا الشرقية والاعتراف بالصين الشعبية. هذا الأمر كان منطقيا تماما في دولة انضمت عمليا إلى المعسكر الاشتراكي. لقد تضرر طلاب يمنيون ممنوحون من ألمانيا الغربية، لكنهم عُوضوا بمِنَح في دول اشتراكية. وينسب إلى البيض امتناع وزارته عن التصويت على دخول قطر والبحرين والإمارات وعمان إلى الجامعة العربية والأمم المتحدة، بحجة أن مصير هذه البلدان تقرره "الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي".
علي سالم البيض مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر
ولم يكن البيض متفردا في هذه الإجراءات، فقد كان الناس يهتفون لرئيس الدولة في حينه (سالمين قود المسيرة.. سالمين حتى الجزيرة)، وذلك استنادا إلى ما رواه وزير الإعلام عبد الله الخامري في حينه عن لقائه مع ماوتسي تونغ، الذي أخذ فيه على ثوار الجنوب توقف ثورتهم عند حدود بلدهم وعدم إكمال المسيرة نحو منابع النفط ووعدهم بدعم صيني من "الإبرة إلى الطائرة"، كما يؤكد سالم صالح محمد في كتابه (مدن نسكنها وتسكننا)، الأمر الذي يفسر تولي البيض التنسيق المباشر مع ثوار الخليج من جهة والتحفظ على عضوية الدول المذكورة في الأمم المتحدة والجامعة العربية. وفي الخارجية، سيدعم البيض انفصال تيمور الشرقية عن أندونيسيا تماما كمواقف الدول الاشتراكية من هذه القضية، وسيؤدي هذا القرار إلى تضرر بعض اليمنيين الذي يحتفظون بنفوذ معمر في هذا البلد.
علي سالم البيض الراديكالي في وزارتي الدفاع والخارجية كان يشبه رفاقه الذين انتصروا على الاستعمار وما يسمونه بالرجعية في جنوب اليمن. كانوا يقاتلون من أجل تحرير بلدهم وجعله محطة للوصول إلى منابع النفط وامتلاك الثروة التي تتيح تغيير وجه الخليج والجزيرة، وكانوا جزءا لا يتجزأ من تيار قومي عربي وجهته الأساسية تحرير فلسطين.
كان علي البيض ورفاقه يدركون أن نظامهم الاشتراكي لن يصمد طويلا إن ظل محاصرا بدول معادية لهم، وهو ما ثبت بالفعل بعد النصف الثاني من السبعينيات، حين غيرت بكين استراتيجيتها، وما عاد بوسع الرئيس سالمين الاعتماد عليها لتحقيق التوزان مع السوفييت، الذين كانوا يريدون أن تتخلى عدن عن الثورة وأن تطبع علاقاتها مع دول الجوار، لذا وفروا الدعم لعبد الفتاح إسماعيل رجلهم الأبرز في جنوب اليمن، وباركوا الإطاحة بسالمين وبما تبقى من التيار الماوي، ومن ضمنه البيض الذي سيدفع الثمن عزلة وإقصاء.
اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
اقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
اقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة