في كل المجالات هناك مدراس مهنية مختلفة، وحيثما وجدت المدرسة فهناك طلاب ومدرسون ومنهج. والأهم من هذا وذاك، أن هناك أجيالا تلتحق وأخرى تنطلق إلى العالم الفسيح. والإعلام ليس استثناء من هذه العملية، غير أن المدارس
الإعلامية محدودة في العالم العربي لأسباب كثيرة، حتى دخل الإعلام العربي
عصر الجزيرة، هنا تأسست مدرسة مهنية في
الصحافة التلفزيونية لا تزال قائمة، ولكن غاب الانتباه لها وسط ضجيج المعارك السياسية التي تهدأ في العالم العربي والتي أصبحت
الجزيرة طرفا فيها.
مع وفاة الراحل العزيز الأستاذ
سامي حداد قبل أيام، فقد تم إحياء ذكراه والحديث عن دور الرعيل الأول من مؤسسي الجزيرة، ولأنني كنت شاهدا وجزءا من هذه المدرسة على مدار عشرة أعوام قبل أن أتركها قبل ستة أعوام، فأردت أن ألقي بعض الضوء على ملامحها. وقد أتاحت لي تجربة العمل في مؤسسات أخرى مع البحث الأكاديمي فرصة تقييم هذه المدرسة، بعيدا عن حدة الاستقطابات الاجتماعية والسياسية التي تموج بها المنطقة.
مع وفاة الراحل العزيز الأستاذ سامي حداد قبل أيام تم إحياء ذكراه والحديث عن دور الرعيل الأول من مؤسسي الجزيرة
كان تطبيق الجزيرة المعايير التقليدية الدولية في الصحافة أمرا جديدا على العالم العربي، رغم شيوعه في عدة دول وثقافات أخرى، لكن الجديد أنه حدث تركيز كبير على الجوانب اللغوية والصياغة في الجزيرة قد يصل إلى حد المبالغة أحيانا. ويلحظ المراقب طرب المشاهد العربي لتقارير الزميل القدير فوزي بشرى مثلا، وقبله اللغة الشاعرية في أفلام الصديق العزيز أسعد طه، وغيرهما كثير. وهذا انعكاس لثقافة داخلية منذ تأسيس القناة تعنى باللغة بشدة، ليس فقط من ناحية سلامة القواعد ولكن لبلاغة الأسلوب وحسن البيان. وبذلك أصبح لدينا فن لغوي جديد بعد الشعر والنثر والقصة، وهو اللغة المصورة، أي اللغة التي تستمد استعارتها من الصورة.
وفقا للقواعد الصحفية الإخبارية، فإن اللغة هي مجرد وسيط، لكن لأن الثقافة العربية هي ثقافة سمعية شفوية شاعرية بطبعها، فقد لاقى هذا الأمر استحسانا عند المشاهد العربي، خاصة أنه لا يتعارض مع القواعد التقليدية في الصحافة وصياغة الأخبار، وهنا حدثت بصمة لغوية يصعب تكرارها. وأعتقد أنه كان للراحل العزيز الأستاذ سامي حداد يد في هذا الأمر كأول رئيس تحرير للقناة، نظرا لتكوينه الشعري بوصفه شاعرا ومثقفا أتى من هيئة الإذاعة البريطانية بخبرة تحريرية وإدارية كبيرة. وأتصور أن البي بي سي ما كانت لتسمح بمثل هذا التغيير اللغوي نظرا لأن قواعدها أسست على اللغة الإنجليزية التي تعتبر هذه الجماليات اللغوية نوعا من التحيز.
هناك أيضا فكرة أولوية السبق الصحفي، وهي ثقافة ترسخت منذ البدايات في القناة جعلت المراسلين وغرفة الأخبار يضعون السبق الخبري والانفراد كأولوية الكل يعملون على إنجازها، والأهم توظيفها تحريرا. ويجد للخبر الخاص بالقناة دوره في النشرات والأخبار العاجلة والتحليلات ثم المتابعة وقد ينتقل للبرامج. وهو أمر نقل عبء الإنجاز من مطلب إداري تقليدي إلى طموح شخصي لكل العاملين، فالكل يتسابقون ليحققوه من دون ضغوط إدارية. ومع الوقت أصبح هناك شعور بأنهم يصنعون العناوين والأخبار، مما زاد من الحماس لمزيد من التجويد في العمل. وهنا حدثت مزاوجة بين المدرسة الأمريكية في الصحافة، مثل قناة سي إن إن التي تعطي اهتماما كبيرا لسرعة نقل الخبر على حساب التوثيق، وبين المدرسة البريطانية التي تعطي الاهتمام الأكبر للتوثيق على حساب سرعة نقل الخبر.
مع تأسيس القناة كانت هناك مسافة واضحة من
العمل السياسي والسياسيين، وهي مسافة مهما ضاقت في بعض الأوقات كانت وما زالت أكبر من مسافة كل القنوات الناطقة بالعربية. وهو شعور داخلي عام بين الصحفيين والعاملين أنهم بالفعل سلطة رابعة أو فوق السلطة. بالطبع هذا تعزز مع مرور السنين وزيادة شعبية القناة، الأمر الذي أعطى انطباعا داخليا عاما بأن العاملين صحفيون وليسوا موظفين، استقالة كل منهم جاهزة إذا أحس أنه لا يمارس عمله المهني بالطريقة التي يرتضيها، خاصة أن كثيرا من القرارات التحريرية الكبيرة كانت تتم في اجتماعات يحضرها معظم الصحفيين وليس بأوامر فوقية. وقد عزز من هذا سياسة اللامركزية في القناة التي سمحت بعرض كثير من المواد من دون إشراف سابق كنوع من الثقة في الصحفي، وتم اعتماد فقط تدقيق لاحق لمواد البث وإصدار نصائح وتوصيات للعاملين ترسل لهم لاحقا من قسم مراقبة الجودة، مع عملية تدريب وتطوير مستمرة للصحفيين والعاملين.
ملامح هذه المدرسة لم تكن حاضرة بهذا التفصيل في ذهن الرعيل الأول من المؤسسين، لكنها حصيلة المزاوجة التي حدثت للخبرة الغربية المنضبطة مع الثقافة العربية الرصينة وسط سقف مرتفع من الحرية
هذه الثقة في دور الصحفي بالقناة ودوره في صناعة القرار التحريري حفزت كثيرا من الزملاء لإطلاق مبادرات مهنية ومؤسساتيه وحقوقية. وليس سرا أن معظم مؤسسات الشبكة قامت بمبادرات شخصية من صحفيين عاملين في القناة، بداية من معهد الجزيرة للإعلام مثلا، وصولا لتجربة منصة "إيه جيه بلس" (AJ+) قبل أن تتحمس لها الإدارة وتتفاعل معها لاحقا.
كانت هذه أبرز ملامح المدرسة التحريرية للجزيرة باختصار شديد، ومن دون الدخول في التقييم الإداري الذي يحتاج لمتخصصين في الإدارة. وأتصور أن ملامح هذه المدرسة لم تكن حاضرة بهذا التفصيل في ذهن الرعيل الأول من المؤسسين، لكنها حصيلة المزاوجة التي حدثت للخبرة الغربية المنضبطة مع الثقافة العربية الرصينة وسط سقف مرتفع من الحرية.
twitter.com/HanyBeshr