إنه معطى ثابت لدينا.. كل مكونات الطبقة السياسية تخاف من
النقابات، بل إن البعض ترتعد فرائصه في أي اجتماع نقابي ولو كان في موقع سيادي، بينما يمعن آخرون في التذلل للنقابات بغية تحقيق أهداف سياسية لا يمكنهم تحصيلها بقوتهم الذاتية. من أين حصلت النقابات
التونسية وهي في غالبها منضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل، وتنسج على منوالها نقابات مستقلة عنه في قطاعات مختلفة على هذه القوة المثيرة للرعب؟ وكيف تستعملها الآن وهنا (أو بعد الثورة التونسية خاصة)؟ وهل يقدم هذا بالبلد ام يدمره؟
الميراث الكريه لنقابة مسيسة
منذ مؤتمر قفصة سنة 1981 تحولت النقابة إلى إقطاع يساري يمارس حربا أيديولوجية تحت غطاء العمل النقابي، لذلك لم نسمع للنقابة رِكزا في مواجهة برنامج الإصلاح الهيكلي الذي خضعت له البلاد منذ سنة 1986، ولم نسمع لها صوتا في مواجهة برنامج الخوصصة الذي بدأه ونفذه ابن علي في راحة تامة. لقد كانت النقابات تغطي ظهر النظام وتشارك في معركة تصفية الخصم السياسي الممنوع من العمل النقابي والسياسي.
طيلة فترة ابن علي تم تقاسم الأدوار بعناية حشر ابن علي اليسار في النقابة وراقبهم وجازاهم وقبلوا هم بالقسمة، فمكسبهم في استئصال خصمهم السياسي كان يجري بدقة متناهية دون أن يفضح تواطؤهم. أما مطالب العمال فكانت تتحقق بالقطرة وبتفضل من الرئيس الذي حيّد كل احتجاج اجتماعي برشوة القيادات النقابية. هذه القيادات تمسكت به حتى الساعة الأخيرة قبل فراره، لتبني سردية أن النقابات هي التي قادت الثورة وطردت ابن علي. وكان يمكن لهذه السردية أن تستمر لولا فضيحة التواطؤ مع المنظومة ممثلة بقائدها الباجي قائد السبسي؛ ضد اعتصام القصبة وتفكيكه وتحريف الثورة إلى تحركات مطلبية بلا نهاية، وحوّلت المطالب السياسية التأسيسية إلى صراعات غريزية من أجل مكاسب قطاعية بلا أدنى شعور بالمسؤولية أمام الثورة ومن أنجزها فعلا.
لقد كان ذلك مناسبا جدا لليسار ولمكونات التجمع القديمة التي تحولت في رمشة عين إلى نقابات لكي تستعاد معركة الاستئصال القديمة، فالجميع عاينوا في الشهرين الأولين للثورة عودة الإسلاميين وانتشارهم السريع من جديد في الشارع وفي كل تحرك فيه نفس مواصلة الثورة. سيحكم هذا على مصير الثورة حتى اللحظة ويكشف الكثير من تحريف عمل النقابة إلى الاستئصال السياسي الذي هو مشروع اليسار الوحيد، والذي تعاضدهم فيه الآن كل مكونات الفاشية من أجل منع الإسلاميين من الحكم أو حتى البقاء في موقع معارضة قانونية. خربت النقابات البلد وكسرت مسار ثورة وأجيال حلمت بالتغيير.
خوف الإسلاميين من النقابة زاد في جبروتها
أخوف الناس من النقابات هم الإسلاميون، وبالتحديد حزب
النهضة بكل قياداتها التاريخية (وأستعمل صيغة المبالغة واعيا). انكشف هذا الخوف منذ حكومة حمادي الجبالي التي أفرزتها انتخابات كشفت قوة الإسلاميين الممكنة والمحتملة. ورغم تلك القوة فقد تجلى رعب الإسلاميين
فلم يستثمروا قوتهم، بل بدأوا سلسلة التنازلات أمام المطلبية المنفلتة رغم أن وزير ماليتهم (السيد حسين الديماسي) هو عدو لهم وصديق للنقابة، ومستشارها نصح لهم وأصر على عدم الخضوع. لكن التنازل الأول جعل النقابات تركب الحكومة حتى أركعتها في حوار وطني مغشوش انتهى بتقليع الإسلاميين من سدة الحكم.
لم يكن للإسلاميين المتشبعين بفكر الزهد والتخلي معرفة بالعمل النقابي، ولكنهم اكتشفوا النقابة بعد رجّة 1978، وتبلور لديهم وعي بالعمل النقابي الحلال بعد الثورة الإيرانية ونشرها لمفاهيم الاستضعاف والاستكبار، ولكنهم لم يفلحوا في التسرب إلى النقابات التونسية بسبب المطاردة الأمنية المستمرة أولا، وبسبب إغلاق اليسار منافذ الدخول عبر تكييف المؤتمرات والانخراطات، فلما انقشع القمع بالثورة وجدوا أنفسهم خارج النقابات ثم وجدوها تواجههم وهم في الحكم.
وقد اختارت النقابة الدفع إلى الحلول القصوى؛ فإما الاستجابة أو تخريب البلد، فآثر الإسلاميون الانحناء أمام كل تحرك مطلبي ولو كان مخالفا للقانون، ولم يجد من ناصرهم في الحكومات سبيلا للتصدي دونهم فاتضحت الصورة ورسخت: إسلاميون في الحكم خائفون متراجعون دوما، ونقابة مزايدة لا ترعوي عن أي مطلب مهما كان مخالفا للقانون، حتى تذكر كثيرون إسحاق شامير وعرفات. فكلما تراجع الإسلاميون عن مربع تقدمت فيه النقابة وطالبت بالمربع الموالي.
وقد تمكنت النقابة بعد فرضها
الحوار الوطني الأول من ترسيخ موقعها كحكم بين فرقاء السياسة لا يجادَل في ما يفعل، ووجدت دوما نصيرا لها داخل الحكومات المتعاقبة بما يسمح لنا بالقول إنها كانت تخترق الحكومات من الداخل وتعارضها من الخارج، بما زاد في عزلة الإسلاميين الذين لم يحسموا أمرهم فبقوا خصما وحيدا خائفا يترقب ويقرر في النهاية منافقة النقابة التي تعيد اكتشاف ضعف خصمها فتبتزه حتى العظم، وما الحوار الوطني الثاني الذي تلوّح به النقابة الآن إلا مرحلة ابتزاز أخرى ستنتهي
بحل البرلمان (يعني طرد الإسلاميين منه) وهي رغبة النقابة، أو تقليص نفوذه بقطع صلته بالحكومة فتعيد الإسلاميين إلى وضع الصورة المعلقة في صالون السياسة؛ لا تؤثر في ما يجري حولها، وتعود الحكومة تحت نفوذ النقابة بشكل كلي. وليس هناك مخرج آخر يمكن توقعه للحوار الوطني الذي أعلن الإسلاميون ترحيبهم به، وهو ترحيب خائف في نفس سياق الخوف الأول، طبعا مع ترديد تلك الجملة الغبية عن تاريخ النقابة ودورها النضالي.
هل كان الإسلاميون خائفين على مصلحة البلد أم على وجودهم نفسه؟ وعندما يجيبون بأنهم لن يحاربوا وحدهم يُسقطون حقهم ويتهربون من مسؤوليتهم في المشاركة في الشأن العام من موقع الفاعل، ويكتفون بالانسحاب المذل.
لقد اجتهدوا ولم يصيبوا، حتى صار مستقبلهم السياسي بيد النقابة الآن، وهي الحاكم الفعلي الذي يحدد الأجندات والبلد خُرب تخريبا. لقد دفعوا ثمن غموض الموقف، أو بالأحرى ثمن الخوف من النقابة بذريعة حماية البلد كان البلد ملكهم وحده.
هل كان هناك موقف آخر؟ نعم لقد كان من حق الشعب أن يعرف أهداف النقابة الحقيقية، ولكن مهادنتها غطت على أجندتها التي لم تخف على أحد منذ البداية فخرجت من كل المعارك رابحة ولم يربح البلد. هل هذه مزايدة من خلف الحاسوب؟ أعرف التبريرات وقد سمعتها كثيرا. أنا أجهل الوقائع الداخلية فعلا، ولكني أقرأ النتائج الواضحة.
كان يمكن قلب اتجاه الريح في اجتماعات شعبية توضح حقيقة الصراع وتقدير كلفة الموقف الواضح ثم تحمل كلفة دعاية واقعية مضادة، فالهروب من المعارك خسارة تامة قبل المعركة، وقد دفعت كلفة الهروب فكانت أعلى من كلفة المواجهة. وقد تأخر الوقت للتعديل، فالحوار الثاني انطلق والنقابة كما قيل تتربع فوق ربوة الأولمب ولا تدخل تحت طائلة المساءلة.
ستحكم النقابة البلد ولو لم تتقدم إلى صندوق الاقتراع. آه.. وجب أن نذكر في جملة أخيرة بأن النقابة الآن مكونة من فلول التجمع الفاشية وفلول اليسار الاستئصالي، وهم عصب منظومة حكم ابن علي وعاموده المركزي، وربما يتكرمون على الإسلاميين في الأيام القادمة بمقعد خارج السجن، فلسان حالهم يردد جملة منتصرة على عتبات حوار وطني متغطرس بنتيجته الحاصلة: الضرب في الميت حرام.