هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ضرب زلزال كورونا العالم بأسره، وما زال شبح كوفيد-19 يطارد الجميع. ومن آثاره أنه كشف عن عورات النظم الصحية لبعض الدول وأظهر ضعف المنظومة الصحية فيها، وفشلت كثير من الدول في إدارة الأزمة وفق القواعد والمعايير العالمية، وظهرت سوأة النظام الصحي بها، ونجحت القلة في ذلك.
وكانت النتائج السلبية بمصر حتى الآن كبيرة، وأصبح التساؤل عن مدى كفاءة وقوة النظام الصحي المصري، وهل لديه فريق وبائي عالي الكفاءة والتدريب، وعنده من العلم والخبرة والقدرة والانضباط ما يمكنه من إدارة مثل هذه الأزمات؟ وهل هناك سابقة في إدارة أزمات مماثلة؟ وهل لديه آليات وإمكانات محلية تمكنه من سرعة توفير المتطلبات وبناء القدرات خلال فترة قصيرة تمكنه من تجاوز الأزمة؟
ولا شك في أن مصر المحروسة مليئة بالكفاءات والخبرات، وإن كفاءة أساتذة طب المجتمع والصحة العامة في كليات الطب المختلفة بمصر، إضافة إلى فريق الأوبئة والترصد الوبائي بوزارة الصحة المصرية، وهو فريق رائع لديه الكفاءة والخبرة وتنطبق عليه كل المعايير المطلوبة، قادر على ذلك.
ولكن السؤال المطروح: هل المناخ السائد الآن يساعد على الاستفادة من هذه الطاقات؟ هناك شكوك في ذلك.
لقد ألقت جائحة كوفيد-19 الضوء على مدى الظلم الذي يتعرض له العاملون في الصحة بمصر منذ عقود طويلة، ومدى الاستهتار بأرواحهم وعدم توفير وسائل الحماية لهم للحفاظ على حياتهم وصحتهم.
فحتى كتابة هذه السطور استشهد 100 طبيب، بكى عليهم أهلهم ومرضاهم، بل والوطن كله، ومع الأسف الشديد يبدو العدد مرشحا للزيادة مع تجاهل السلطات.
ويبدو أن المسؤولين لم يدركوا بعد حجم المصيبة، وأن مصر تفقد يوميا عناصر من أغلى ما تملك، إنهم أبناؤها المخلصون الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أهلهم ووطنهم.
فمع الأسف ومنذ عقود طويلة، كان عدم تقدير الأطباء والغفلة عن حقوقهم هما السمة الغالبة في مصر، حيث تدهور وضع الأطباء، ومُنعوا من مساواتهم بباقي قطاعات الخدمات في الدولة، كالشرطة والجيش والقضاء، وأفشلت 30 حزيران/ يونيو محاولة جعل كادر خاص لهم موضع التشريع والتنفيذ من خلال برلمان ثورة يناير، ووجد البعض أن الهجرة للخارج هي الحل من أجل حياة أفضل.
وباتت الحاجة شديده للأطباء والعاملين في الصحة خصوصا مع كوفيد-19، وقفز الاهتمام بهم للواجهة من جديد. فأطباء مصر الذين يقدر عددهم 240 ألف طبيب، منهم 82 الف طبيب في وزارة الصحة واستقال منهم في عام 2019 فقط 3500 طبيب لأسباب؛ منها ضعف الحماية وعدم توفر الإمكانات ووسائل الحماية، وقلة الرواتب، وعدم وجود فرص للدراسات العليا، والهجرة للخارج، وغيرها من الأسباب. وحسب وزارة الصحة 60 في المئة من أطباء مصر هاجروا للخارج أو استقالوا أو في إجازة.
ويبدو أن هذا الأمر لم يرق للمسؤولين الذين أطلقوا مصطلحات التسكين والترضية، مثل تحية تقدير واعتزاز للعاملين بالصحة، فقط كي تمر الأزمة وتعود بعدها "ريما إلى عادتها القديمة". ولن يفيدهم هذا على المدى البعيد، بعد أن تجاهلوا إصدار تشريع وتنفيذه على أرض الواقع يعيد للأطباء وأعضاء المهن الطبية حقوقهم، وينصفهم ويحميهم ويرد لهم بعض الاعتبار.
والعجيب أن الدولة التي عجزت عن توفير الكمامات ووسائل الحماية للأطباء وأعضاء الفريق الصحي، نجدها تتبرع بها إلى إيطاليا، فلربما تخفي الكمامات والأقنعه وجه الحقيقة في قضية ريجيني.
وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكا
(المتنبي)
إن الأطباء قد ضاعوا بين الجهة الحكومية (وزارة الصحة) التي تحولت الوزيرة فيها إلى سكرتيرة أو مديرة مكتب تنفذ التعليمات ولا تكترث بالاستغاثات والمناشدات التي صدرت من الأطباء، بل والاستقالات التي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تتحرك لتوفير سرير بقسم العناية الفائقة لطبيب أصيب بكورونا أثناء أداء واجبه في علاج المرضى، وتشغل نفسها بضرورة توفير هذا السرير لإحدى الفنانات وبسرعة فائقة، مما يستوجب محاسبتها قانونيا وبرلمانيا، ولكن هيهات هذا في ظل نظام ما بعد 2013.. وبين الجهة النقابية (نقابة أطباء مصر)، تلك النقابة العريقة ذات التاريخ الطويل في الدفاع عن الحقوق والنضال الوطني الشريف (وهو أمر معروف ولا يحتاج مزايده من أحد). هذه النقابة التي حفل تاريخها بالعشرات من المواقف المشرفة ومئات من الشخصيات الوطنية من كافة الاتجاهات الفكرية، وأفرزت قامات نقابية مناضلة سطرت أسماؤها بحروف من نور، والتي شهدت عصرها الذهبي في العمل النقابي بحسب مراقبين إبان تولي مجلس النقابة أطباء من الإخوان المسلمين، إذا بنا نجدها الآن قد التزمت الصمت الرهيب واكتفت ببيانات نعي الأطباء وإعلان الحداد على موقعها على الشبكة العنكبوتية، ولا عزاء للحقوق المشروعه للأطباء.
وربما يتساءل البعض: أين الأشاوس من صقور مجلس النقابة الذين دخلوها بعد 2013، أصحاب التصريحات القوية أيام الحرية وأثناء ثورة يناير المجيدة مطالبين بالكادر المالي وباقي الحقوق؟
هل تحولوا إلى حمائم وديعة وصاروا كالذي يقول للنظام: تسمح لي أعارض سيادتك يا باشا لو تكرمت؟
أليس هذا الأداء النقابي ضعيفا وهزيلا بل ومتخاذلا؟
ويرى البعض الآخر أن مجلس النقابة الحالي قد بذل أقصى ما يستطيع في ظل الهامش المسموح به من قبل سلطات الاستبداد، وفي ظل تأميم الأجهزة الأمنية في مصر للعمل النقابي بل ولمؤسسات المجتمع المدني كلها.
وبين هذا وذاك ضاعت حقوق أطباء مصر ومطالبهم، في حين أنه من الناحية القانونية نجد حقوق الأطباء منصوصا عليها بوضوح، فقوانين النقابة ولوائحها تفرض عليها حمايتهم، وقانون رقم ٥٤ لسنة ١٩٦٩ بشأن نقابة الأطباء التي تحميهم وتصون حقوقهم وترفع من قيمة المهنة الإنسانية؛ ينص في مادته رقم 2 بفقراتها المتعدده على:
- تجنيد طاقات الأطباء ليؤدوا مهنتهم من أجل حل المشاكل الصحية للشعب.
- والمشاركة مع جميع فئات العاملين في الخدمات الصحية لتنسيق الجهود من أجل كفايتهم وزيادة الإنتاج في الخدمات الصحية، والعمل على رفع مستوى مهنة الطب وقائيا وعلاجيا وتطويرها بما يحقق للشعب أكبر قدر من الرعاية، والمشاركة في رسم التعليم الطبي وتطوير المناهج والتـدريب الفنـي للأطبـاء، على المستوى المركزي بالقاهرة والإقليمي بالمحافظات عن طريق النقابات الفرعية، والارتفاع بالمستوى العلمي للأطباء.
- والمشاركة في رسم سياسة توفير الأدوية والمستلزمات الطبية وتشـجيع صـناعة الأدوية الوطنية، والمساعدة في تهيئة فرص العمل لكل طبيب، وتنظيم العلاقة بين الاطباء، وتنمية روح التعاون وتقوية الروابط بينهم، وتيسير الخدمات العلاجية والاجتماعية للأطباء وأسرهم، والعمل على تهيئة الظروف المادية والمعنوية التي تصون مصالحهم وترفع مستواهم.
والدستور ينص في مادته 18 على: "لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3 في المئة من الناتج القومي... وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي".
ووزارة الصحة تؤكد على كل هذه الحقوق في عشرات القرارات الوزارية المتتالية، ولكن يبدو أنه لا توجد إرادة سياسية حقيقية لإصلاح الأوضاع المقلوبة وإعادة الاعتبار للمهن الطبية، بل تطور الوضع مؤخرا إلى تهديد الأطباء بالاعتقال والتعذيب والسجن والتشريد.
فمن فرض الدستور لايلتزم به أبدا، ومن تصدى للعمل النقابي لا يؤدي واجبه كما ينبغي.
لقد ضاع الأطباء بين طغيان من قال "اقعد انت مش عارف بتقول ايه"، وبين ضعف من قال "تسمح لي يا باشا بالاعتراض".
آن الأوان لتصحيح وضع الأطباء والعاملين في مجال الصحة، وإلا ستكون القدرة على إقناعهم شبه مستحيلة، والتفاني في العمل وبذل نفوسهم ضربا من الخيال.
ويجب على الأطباء أن يضغطوا على نقابتهم من أجل توفير بيئة عمل مناسبة، ووسائل حماية كافية للحفاظ على حياتهم، والارتقاء بمستواهم العلمي والفني والعمل على برامج علمية لتدريبهم وإعدادهم لمواجهة هذه الجائحة، وتبادل الخبرات مع الدول التي حققت نجاحا، وتوفير علاج مناسب لهم ولأسرهم، وحمايتهم من التهديد والوعيد من السلطات الحالية، مع ضرورة تبني مشروع كادر مالي للأطباء والمهن الطبية، واعتبار كل من فقد حياته خلال معركة كوفيد-19 شهيدا للوطن؛ تكون له ولأسرته كل الحقوق المادية والمعنوية، وإطلاق أسماء الشهداء على المستشفيات والمنشآت الطبية والشوارع والميادين، وعمل يوم وطني لتكريم شهداء الأطباء والعاملين في الصحة.
وعلى من في دار الحكمة (مقر النقابة) أن يستجيبوا فورا لذلك، ويؤدوا واجبهم النقابي والوطني بشجاعة، وألا يكتفوا بإعلان الحداد والمؤتمرات الصحفية، وأحرى بهم أن يستقيلوا أو يُقالوا.
وأمام النظام فرصة ليتحلى ببعض الحكمة ويقوم بتحسين صورته خارجيا وداخليا، ويستجيب لهذه المطالب العادلة من أجل تحقيق مصلحة المواطنين، وتوفير حق الخدمات الصحية للشعب وفقا للدستور الذي أقسم عليه، وإلا سيلعنهم المصريون ومستقرهم هو مزبلة التاريخ.
إذا أمام الجميع فرصة ذهبية لإصدار تشريع وتنفيذه لإنصاف العاملين في مجال الصحة. فهل سيقتنصوا الفرصة أم ما زلنا في زمن الفرص الضائعة؟