قضايا وآراء

مكانة أصحاب السّابقة.. وكيف نتعامل معهم؟

نواف تكروري
1300x600
1300x600
قال تعالى: "والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضيَ الله عنهم" (التوبة: 100).

السّابقونَ هم أصحاب فضلٍ خاص لا يدانيهم غيرهم من اللّاحقين، ولا يدركهم من جاء بعدهم ولو فعل مثل فعلهم، وذلك أنّهم حملوا الرّسالةَ إذ خاف من حملها النّاس، وبادروا لخدمة المشروع في الوقت الذي انفضّ عنه سواهم، فهم الذين تكبّدوا المشاق وتحمّلوا المغارم، وليس أمام أعينهم من بريق المغانم شيء.

ولذلك؛ فقد جاء في الحديث فيما ما رواه الشيخان في الصّحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا المتأخرين من أصحابه: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه".

فهم أهل الخير والفضل الأسبق، وأصحاب البذرة الأولى، فمن يفعل الخير من بعدهم إنما ينمي ما ابتدؤوه، ولولا فضل الله تعالى أولا ثم مدّهم ونصيفهم، لما رأينا الجبال والقناطير المقنطرة من بعدهم.

فالآية بينت جزاءهم عند الله عز وجل وهو الرضا والفوز، والحديث أوجب احترامهم وتقديرهم والتجاوز عنهم.

ولا شك أن هذا يصلح لكل مشروع، فهو عامٌ في كلّ المشاريع الرّائدة على مستوى الأمة، لا سيما المشاريع التي تنشأ في ظروف قاسية، وينحتُ أبناؤُها صخر التحدّي ليقوم المشروع على قدميه، ويواجهون المخاطر الجسيمة والمكائد الكبيرة مع تكالب أهل الشّر والباطل ضدّهم؛ فهم إذ قرروا الدّخول في المشروع وخوض غماره صاروا عرضة للخطر، ولا أمل لأحدهم بثمرةٍ شخصيّة، وإنما ضحى في سبيل الله وفداء لمشروع حق وصدق وإيمان؛ فهو يسعى لإرسائه ولو على أنقاضه شخصيا. فهؤلاء مصطَفَون من الله تعالى لحملِ رسالته والذّود عن دينه، فهو الذي يرفع مكانَهم وقدرهم عنده ما أخلصوا النيّة لوجهه الكريم وهذا أعظم التّكريم، وقد يمدّ في أعمارهم ويجعل لهم شأنا من الدنيا.

وهؤلاء السابقون يجب عند رسوخ المشروع وثبوت أهدافه ورسوخ فكرته وبدء إيناع ثمرته؛ تكريمهم وتقديمهم على غيرهم ممن لحق بهم. وهذا شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ميز السبق في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة في الأعطيات، وكان من أبرز المعايير السابقة والقرب من رسول الله صلى الله عليه، وسلم، وقد بين الله ذلك في قوله: "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ".

وربما يطول الحديث بفضل أصحاب السابقة وتقدير أهل الفضل والتضحية، وهو واجب على كل حملة مشروع، وإلا فإن لم يكن هذا نهجا واضحا عندهم، فإنهم يتجاوزون الفضل بينهم ويسقط الاحترام الواجب لمستحقيه.

ولكن هناك أمران مهمان يفهمان خطأ في هذا السياق، يجب التنبيه لهما وتجليتهما في التعامل مع أهل السابقة مع الإقرار بفضلهم:

الأمر الأول؛ أن تقدير أصحاب السابقة لا علاقة له بتولية المواقع ولا باختيار الأقوال والآراء وترجيحها، فلا يولّى شخصٌ لموقع لمجرد سابقته، ولا يؤخذ بقوله ويكون راجحا على ما سواه من الآراء بسبب سابقته، وإنما الكفاءة هي معيار الاختيار للموقع والترجيح بين الأقوال له منهج موضوعي معتمد في اختيار الأقوال وردها، فالمواقع والآراء تعتبرُ فيها الكفاءة والرجحان، وليس لسابقة الفضل والتضحية من معايير ذلك.

وإنما يكون تقدير أهل السابقة بالتقديم في المجالس والإكرام والعطاء والإجلال وربما بكل المواقع الرمزية، كما فعل عمر رضي الله عنه في توزيع الأعطيات، وتقديمهم في المجالس على غيرهم.

أما أن يؤخذ قول شخص لمجرد كونه من صاحب سابقة أو تضحية دون معرفة رجحانه، أو يولى منصبا لتضحيته وفضله دون اعتبار كفاءته، فهذه جناية على العمل وعلى المشروع، وإضرار بالفكرة والمشروع الذي ضحّى له أهل السابقة ومن تبعهم بإحسان.

ولو أخذنا بإطلاق الأسبقية، لما تقدم خالد بن الوليد في القيادة العسكرية على أكابر الصحابة والسابقين للإسلام، وهو الذي أسلم بعد انطلاق الدّعوة والمشروع بحوالي عشرين عاما.

الأمر الثاني؛ أن الذي يعفى عنه لأهل السابقة ليس هو تسليط الضوء على الخطأ وبيان الزّلل إن وقع منهم، ولكن الذي يعفى عنه هو العقاب على الخطأ، وأما كشف الخطأ وبيان كونه خطأ والمساءلةُ عليه فالناس في ذلك سواء، السّابقون واللاحقون. وذلك أنَّ غضّ الطّرف عن الخطأ بذريعة السّابقة يؤدي إلى بقائه واستمراره، ويرتب آثارا سلبيّة على الفرد والمجموع.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى؛ أعلن لأفراد أو فئات عفوا عاما، فقال: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم"، وقال: "وما يدريك يا عمر، فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم"، ولكن لا نجد نصا واحدا يخبرنا أن شخصا واحدا لفضله أو لسبقه قد عُصم من الخطأ، عدا الأنبياء عليهم السلام، أو تبريرُ زلته وتحويل خطئه إلى صواب. فأصحاب الفضل أو السابقة بشرٌ غير معصومين؛ فهم يخطئون ويستدرَك عليهم، وقد نرفض أقوالهم أو تصرفاتهم، وقد لا يصلحون لأمر أو موقع، فأبو ذر رضي الله عنه رغم فضله وسابقته لم يصلح للولاية.

ولكن عند المحاسبة لا يساوى في العقوبة بين صاحب السابقة وغيره؛ فصاحب السابقة عند وقوع الخطأ يكون من الواجب أن يعفى عنه ويُتجاوز عن خطئه لما في سجله من سوابق الفضل، وذلك بخلاف غيره من اللاحقين الذين تقتضي المصلحة مساءلته ومحاسبته على خطئه.

فالوحي هو الذي كشف خطأ حاطب رغم سابقته، وساءله رسول الله صلّى عليه أمام الملأ، ولكن عندما اقترح عمر عقاب حاطب على هذا التجاوز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم.

فاعتبارُ السابقة وتكريم صاحبها لا يكون بعدم إظهار الخطأ وبيانه، وإنما يكون بعدم العقاب عليه، وكذلك لما ظهر خطأ خالد رضي الله عنه، عفى عنه أبو بكر رضي الله عنه ولم يعزله لفضله وقدراته.

بقي أن أقول؛ إن صاحب الفضل والسابقة لا يشينه أن يتمّ كشفُ خطئه ولا ينزل مكانته، فهو كالماء الذي زاد عن قلتين فلم يحمل الخبث، وكذلك من تبين فضله وسابقته وثباته وتضحيته لا يضره أن يقع في الخطأ مرة أو مرارا، بل إن النصح لصاحب السبق ضرورة لأنه أسوة وقدوة، فيخشى أن يسير الآخرون على آثار خطئه والاقتداء به إن لم يُكشف خطؤه وينبّه عليه.

وعلى أصحاب السبق وصناع المشاريع ومن قدموها على ذواتهم، أن يحرصوا على كشف أخطائهم والاعتذار عن مواقفهم الخاطئة، حرصا على المشروع الذي بدؤوه وضحوا له، وإلا فإنّ ذلك يكون علامةَ تغيّر وتحوّل في نفوسهم، وتقديمهم لذواتهم ومواقعهم على مشاريعهم التي صاروا سابقين بحملها وتقديمها.

فيا أصحاب السّبق في المشاريع الكبيرة؛ يا من ضحيتم حين بخل النّاس وتقدّمتم حين تأخر النّاس:

فلا والله لا يشينكم أن تقعوا في الخطأ ولا ينقص قدركم كشفه لتلافيه، وإنما استمرار الخطأ هو المشكلة، وهو الذي يضر باستمرار المشاريع التي تسقى بالدماء ويبذل من أجلها الغالي والنفيس.

واعلموا أنّ من أكبر الإساءات للسابقة وللمشروع معا، أن تكون السّابقة وسيلة يتمّ توظيفُها لإقناع الناس بصواب الزّلل وتجميل الخلل.
التعليقات (0)