مقالات مختارة

معركة إدلب… قراءة في مشهد الصراع السوري

صادق الطائي
1300x600
1300x600

يبدو المشهد السوري أكثر تعقيدا في إطار المعركة الدائرة للسيطرة على مدينة إدلب بين الجيش السوري المدعوم روسيا من جهة، وفصائل المعارضة السورية المسلحة المدعومة تركيا من جهة أخرى، إذ ينطلق كلا طرفي الصراع مستندا إلى معطيات اتفاقيات سابقة، محاولا تأكيد ما ينفعه من بنودها، ليتمسك به على الأرض، فالإشارات كثيرة اليوم إلى اتفاقية سوتشي 2018 التي نظمت العلاقة بين قوات النظام السوري والقوات التركية، التي انتشرت في 12 نقطة على طول خط الحدود الفاصل بين قوات الطرفين على أطراف ريف محافظة إدلب شمال غرب سوريا.


وقد نظمت جولات المفاوضات الروسية التركية الإيرانية السابقة، طبيعة انتشار القوات في كل مرحلة، وقد نظر لها المراقبون على أنها كانت خطوات استعاد النظام السوري عبر جولاتها سيطرته على الأراضي، التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة، فبعد تسع جولات في مدينة أستانة في كازاخستان، وعدد من الجولات في مدينة سوتشي الروسية، بالإضافة إلى مفاوضات جنيف التي تمت تحت إشراف الأمم المتحدة، وصل الحال إلى أن النظام السوري، تمكن من استعادة أغلب الأراضي السورية، ولم يتبق خارج سيطرته سوى محافظة إدلب والشريط الحدودي، الذي تسيطر عليه تركيا كحزام أمني، لحماية أمنها القومي من هجمات مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى مناطق الإدارة الذاتية في روجافا (كردستان سوريا) التي يديرها أكراد سوريا بتنسيق، أو بتشاور مع حكومة دمشق.


كانت مفاوضات سوتشي 2018 قد تضمنت الإشارة إلى مناطق خفض التصعيد، التي تعني مناطق منزوعة السلاح الثقيل تشرف عليها تركيا، وتمنع وجود الفصائل المسجلة كتنظيمات إرهابية فيها مثل، تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، وجبهة النصرة (تنظيم القاعدة)، وبعض الفصائل الجهادية القريبة منها. وفي المقابل نشرت أنقرة 12 نقطة عسكرية لمنع تقدم الجيش السوري، ومهاجمة أدلب التي أصبحت بالنتيجة بؤرة لتجميع كل الفصائل المعارضة للنظام، التي انسحبت من مختلف الأراضي السورية بعد سيطرة النظام عليها.


ومنذ كانون الأول/ديسمبر 2019 ابتدأ الجيش السوري، مدعوما بغطاء جوي روسي كثيف، عملياته لاستعادة السيطرة على ما تبقى من ريف حلب، وبعد ذلك تقدم للسيطرة على إدلب وريفها، ما دفع حكومة أردوغان إلى إطلاق التهديدات بوجه النظام السوري، محذرة من أنها سوف تلجأ إلى المواجهة العسكرية ضد قوات الأسد، لكن خطوات التصعيد أخذت بالتصاعد، مع تقدم القوات السورية وسيطرتها على مدن مهمة مثل معرة النعمان وسراقب، وأدى مقتل أكثر من 20 جنديا تركيا إلى إطلاق الرد التركي، الذي واجه القوات السورية، وكبّدها خسائر في الأرواح والمعدات، وصفها الجانب التركي بأنها كبيرة، كما دعم الجيش التركي تقدم فصائل المعارضة السورية، واستعادتها لمدينة سراقب الاستراتيجية، التي ما زال القتال يدور حولها.

 

بدوره سعى أردوغان إلى التفاوض مع بوتين، لغرض تحييد أو تقليص الدعم غير المحدود، الذي يقدمه الروس لنظام الأسد، وقد خاض الأتراك والروس ثلاث جولات من المفاوضات في موسكو وأنقرة، وقد دارت الجولة الثالثة في أنقرة بشكل رئيسي حول الوضع في إدلب. لكن يبدو أن الموقف الروسي كان مصمما على دعم الجيش السوري، ولم يسمح للأتراك باستعمال الطائرات، أو الطائرات المسيرة في أجواء إدلب، ما يعني أن أي هجوم تركي سيكون دون غطاء جوي، ومن ثم سيكون عرضة للقصف الجوي السوري والروسي الذي سيدمره ويفشله.


لذلك، سعى أردوغان إلى لعب ورقة الموازنة بتقربه من إدارة ترامب، التي رحبت بدورها بهذا التقارب، وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي جورج بومبيو، بدعم إدارته لحكومة أردوغان ومساعيها الإنسانية للحفاظ على السكان المدنيين في إدلب التي تضم أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، ودعا بومبيو حلف شمال الاطلسي لدعم الجيش التركي، عبر تقديم المعلومات اللوجستية، وتقديم الدعم العسكري، لكن من دون أي أشارة إلى وجود عسكري أمريكي، أو أطلسي، كما أشارت إدارة ترامب إلى إمكانية زج السعودية في دعم الأتراك ماديا ولوجستيا، ما يعني تحميل السعودية العبء المالي للعمليات العسكرية التركية، ما أربك المشهد وزاده تعقيدا.


لطالما كان موقف الإمارات والسعودية عدائيا لنظام أردوغان، على خلفية حملتهما على حركة الإخوان المسلمين، التي يدعمها وينتمي لها أردوغان، لكن يبدو تشابك المواقف اليوم معقدا، إذ أعلن الإماراتيون في تصريحات شبه رسمية، وجوب وقوف الدول العربية مع سوريا في مواجهة ما وصفوه بـ«الغزو التركي» للأراضي العربية السورية، علما أن دولة الإمارات والمملكة السعودية، كانتا من أبرز الداعمين لفصائل المعارضة المسلحة، التي حاولت إطاحة نظام بشار الأسد طوال تسع سنوات، والتي تتمترس بقاياها اليوم في إدلب.


موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة أصابه الارتباك أيضا، فقد هدد أردوغان بشكل معلن دول الاتحاد الاوربي، وتحديدا ألمانيا وفرنسا بقوله «إن العمليات العسكرية في إدلب ستقود إلى كارثة إنسانية، وستنتج موجة لجوء مليونية جديدة». فبحسب الإحصاءات الرسمية لمنظمة الأمم المتحدة، هنالك أكثر من مليون ومئتي ألف نازح من المدنيين هربوا من مناطق النزاع في إدلب باتجاه الشريط الحدودي الفاصل بين تركيا وسوريا، الذي يضم معسكرات إيواء اللاجئين المكتظة بسكانها، وقد أشار أردوغان إلى عدم قدرة تركيا على استيعاب موجة هجرة سورية جديدة، تضاف إلى الثلاثة ملايين لاجئ الموجودين حاليا في تركيا، ما يعني تهديده بفتح الحدود التركية الأوروبية لموجة لجوء عارمة تذكر بموجة 2015 التي اجتاحت أوروبا حينها. هذا الأمر جعل التصريحات الرسمية الاوروبية تحابي أردوغان وتغازل مساعيه الإنسانية للحفاظ على السكان المدنيين وحمايتهم من هجوم الجيش السوري على إدلب، لكن الطلب التركي كان منصبا مؤخرا على عقد قمة رباعية تركية ألمانية فرنسية روسية، يبدو أن الغرض منها تدعيم الضغط الأوروبي على روسيا لزحزحة موقفها الداعم للنظام السوري.


أزمة إدلب بدورها انعكست على الداخل التركي، على شكل أزمة تواجه نظام أردوغان، فبعد ازدياد أعداد القتلى بين أفراد الجيش التركي، والمليارات التي تصرف على دعم فصائل المعارضة السورية، وعلى الوجود التركي في الداخل السوري، بات سؤال المعارضة التركية الملح هو: ما جدوى تصرفات حكومة اردوغان، التي تسببت بكل هذه الخسائر لتركيا، وبات موقف الحكومة التركية محرجا، ولم يعد سبب الحفاظ على الأمن القومي كافيا لإقناع المعارضة باحتمالية الدخول في حرب مواجهة مع دولة عظمى بحجم روسيا. لكن من جانب آخر، يرى المراقبون أن موقف أردوغان بات عصيبا، والخيارات التي أمامه بات أحلاها مرا، إذ لا يستطيع التراجع عن دعم فصائل جهادية بعضها ذو عرقية تركية مثل: كتائب السلطان مراد، وكتائب السلطان محمد الفاتح، ولواء سمرقند ولواء القوقاز، بالإضافة إلى فصائل جبهة تحرير الشام (النصرة سابقا) وبعض الفصائل الأخرى، إذ إن إيقاف الدعم التركي لهذه الفصائل وتركها بمواجهة الجيش السوري، سيعني انسحابها إلى الداخل التركي، واحتمالية تحولها إلى بؤر إرهابية، وسيترتب على حكومة أردوغان قتالها في تركيا مستقبلا.

 

لذلك، تبدو احتمالية الحرب الشاملة ومواجهة روسيا سيناريو صعب التحقق، وأن إطلاق عمليات عسكرية محدودة يقوم بها الجيش التركي في إدلب وريفها في الأيام المقبلة، هو السيناريو الأكثر ترجيحا أمام الجيش التركي، ليضمن انسحابا يحفظ ماء وجهه في معركة عسيرة سيتقرر فيها مصير مدينة إدلب.

 

عن موقع "القدس العربي"

0
التعليقات (0)