تدّعي بلاد كثيرة أنها جنّة الأرض، لكن
نيوزلندا، الأرض الجديدة، بملايينها الخمسة، وجزيرتيها الكبيرتين، وجزرها الستمئة، جنّةٌ حقيقية. أحد أسباب فرادتها أنها بعيدة، في أقصى الأرض. وهي تحظر استقبال المركبات التي تعمل بالوقود النووي في موانئها، فهي تتطير من تلويث البيئة، وهي آخر الجزر المكتشفة. وترغب استوديوهات كثيرة في تصوير أفلام الطبيعة البكر في غاباتها وثلوجها وينابيعها الفوارة وبراكينها، وأشهر الأفلام التي صُورّتْ فيها؛ فيلم "سيد الخواتم" وفيلم "الساموراي الأخير". وقبل فترة قصيرة كانت مساحة 80 في المئة منها مغطاة بالنباتات، وفيها كائنات نادرة، وأخرى انقرضت، مثل نعامة الموا، والبومة الضاحكة، وهي دولة تتبوأ رتبة عالية في تصنيفات السعادة والسؤدد.
احتلت نيوزيلندا المرتبة الثامنة في سلم السعادة التي حددها متوسط الردود على أسئلة حول القناعة الشخصية والمشاعر الإيجابية في الآونة الأخيرة، فبدتْ جريمة برينتون هاريسون تارانت كأنها الجريمة الأولى. وجه الشبه بالجريمة الأولى (جريمة قتل قابيل)، هو الاستعلاء، فالقاتل قتل أتقياء عابدين مصلين، في بيت من بيوت الله، وهي من أشنع الجرائم، لكنها ليست الجريمة الأولى، فهي دولة مستوطنين، إنها دولة احتلال شبه ناعم استعملت فيه البنادق والبطاطا. انتصر الغزاة لقلة عدد السكان وتخلف السلاح. وحالياً تتصف حكومتها بالأنوثة؛ لأن أكثر حكامها إناث. الملكة، الحاكم البريطاني، رئيسة الوزراء.. وتجلّت نعومتها في السماح للمساجد ببناء المآذن والقباب، وهو ما تحظره عدد من الدول الأوروبية.
تتوالى التقارير عن نيوزلندا، بسبب الجريمة التي صارت سفيراً لأخبارها، وقد ظهر مترجم لغة الإشارة إلى جانب رئيسة الوزراء، ذلك لأن لغة الإشارة إلى جانب الإنكليزية الوافدة والحاكمة واللغة الماورية الأصلية؛ لغةٌ رسمية، وظهرت الشرطة بزي صيفي في الشتاء، ذلك أنّ الطقس معتدل في كل أيام السنة في نيوزيلندا، التي كان اسمها قبل الاستيطان البريطاني أوتياروا، وهي تعني السحابة الطويلة البيضاء.
لقد انشغل المسلمون والمنصفون من غير المسلمين برصد تصريحات الدول والشخصيات الكبيرة، ووجدوا أنّ البيت الأبيض بخل بوصف مجزرة نيوزيلندا بالإرهاب، واحتال على ذلك، بتعزية الدولة ولم يُعزِّ المسلمين، ورصدوا أنّ الإعلام الرسمي السعودي والإماراتي جاهد واجتهد في تجميل العملية
الإرهابية، فقد أربكت الجريمة حساباتهم، وتحذيراتهم للدول الأوربية بمراقبة
المساجد.. المسجد كان ضحية، سبب ذلك أنّ الملوك والرؤساء العرب يسعون للاندماج، ليس في حضارة الغرب: نحن مثلكم.. بل نحن أقل منكم بكثير، وهذا ما يرضي غرور الغرب.
وكان من جملة الأوصاف التي أطلقتها جهات رسمية عالمية أنها "عمل جبان"، والجبن مقلوب الشجاعة، وقد حسب القاتل نفسه شجاعاً لأنه لم يتقنّع، ولم ينكر جريمته، بل تباهى بها.. وهذا عمل من أعمال الشجاعة، لكن مكمن الجبن فيه هو أنه قتل مصلين عزلاً في مكان مقدس، في مكان لا يخطر فيه القتل إلا للجبناء.
لكن الرأي قبل شجاعة الشجعان، فلو خاطبنا القاتل بالعقل، وهو مثقف أعدّ كتاباً وخطاباً، ومواقف تاريخية، واستذكر حروباً، لعرف أن نيوزلندا لم يكن بها أبيض قبل أربعة قرون، وأول أوروبي استكشفها هو المستكشف جيمس كوك عام 1642، وبدأ المبشرون المسيحيون بالاستقرار في نيوزيلندا منذ أوائل القرن التاسع عشر. بسبب انعدام القانون في المستوطنات الأوروبية وتزايد الاهتمام الفرنسي في المنطقة، قامت الحكومة البريطانية بتعيين جيمس باسبي كمندوب بريطاني في نيوزيلندا في عام 1832. أعلن الجنرال الحاكم السيادة البريطانية على كامل نيوزيلندا يوم 21 أيار/ مايو 1840. ازداد عدد المستوطنين وبدأت الصراعات على الأرض، وأدت إلى حروب أرض نيوزيلندا في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، ما أدى إلى فقدان ومصادرة الكثير من أراضي الماوري. أعلنت نيوزيلندا دُومِينِيون في 1907، أي دولة مُستقلَّة من دول الكومُنْوِلْثْ البريطانيّ.
أحضر المستوطنون معهم ما تكافحه الدولة بدأب الآن، الجرذ، الذي قضى على كثير من الطيور والحيوانات.
ظاهرياً يبدو القاتل شجاعاً، فهو يلتزم الصمت، ويرفض توكيل محام، ولا يبالي بالجهر باسمه، لكنه قتل أناساً عزّلاً، بينهم شيوخ وأطفال ونساء، ولهذا هو عمل جبان، وهو مثل عمل كثير من الرؤساء العرب، الانقلابيين.. السيسي الذي يصدر القوانين، ويقتل ويحطم؛ لأنه غير قادر على المواجهة بالصناديق، ووظف الشارع مرة واحدة فقط ثم منعه.. ما يقوم به الأسد أعمال كلها جبن وخسة؛ باستخدم الكيماوي والبراميل ضد العزل من شعبه.. الجبن الذي يؤكل اشتق من كلمة الجبن لأنه يغطى، وقد تلجأ النساء إلى التعري الجبان؛ لأنه سريع المفعول ويأخذ الألباب، كما فعلت رانيا يوسف مثلاً، وزعمت أن للفستان بطانة، وصارت الدوائر الإعلامية تصف التعري بالجرأة: وتقول شورت جريء، وساخن، وتقتبس مصطلحات فيزيائية بدلاً من الأخلاقية.
ليس أغلى من النفس، وليست هناك جريمة أكبر من إزهاقها في الكتب المقدسة كلها. قضى مليون في سوريا غدراً، والآلاف في مصر، وفلسطين، لكن دماء خمسين مسلماً أجبرت الإعلام الغربي على الإقرار بالإرهاب الأبيض الذي لا يؤكل.
الغريب في هذه المذبحة أن القاتل ومكان القتل بعيدان جداً عن مواقع الصراع المعروفة، كما أنّ لها علاقة بالكباب. حلَّ فيلم عادل إمام "الإرهاب والكباب" مشكلة الإرهاب بوجبة كباب.. الإرهاب سببه الجوع، أما في هذا الفيلم، فالقاتل ضد أكل الكباب، فأغنية "تخلص من الكباب" ترافق القتل في المسجدين مثل "صليل الصوارم"، وله سبب غير الجوع وهو الحقد، ولا يطمح المسلمون أن يطلق الغرب على الجريمة وصف "إرهاب مسيحي"، فهو الذي يصف كل جريمة حتى لو كانت فردية بدافع الثأر؛ بأنها "إرهاب إسلامي".. الغرب هو الذي أطلق على حملته في غزو الشرق "الحملة الصليبية".. جلّ ما يريده المسلمون ألا يزروا وزر وازرة أخرى.
يقال إن الإرهاب ليس له دين، والحقيقة أن الإرهاب دينه الاستعلاء.