قضايا وآراء

التفكير"معا" بما هو بديل عن الموت"معا"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
لا شكّ أنّ الكثير من نُخبنا "الحداثية" مثّلت قبل 14 جانفي "الرأس مال البشري" اللازم لإدارة البلاد ولإنتاج"الرموز " و"القيم" و الأنظمة السلوكية الجماعية، التي انبنى عليها ما يُمكن تسميته بـ"المشترك العلماني". وهذا المشترك العلماني هو "رؤية للوجود" تتصارع ضمن سقفها النهائي جملة من الإيديولوجيات اليسارية والبعثية والليبرالية والقوميّة-مع غلبة واضحة في مستوى التأثير "العمومي"  لكاريزما اليسار "المناضل". ولعلّ "المشترك العلماني" في شكله "اليعقوبي الفرنسي" هو ما يُفسّر اشتراك الأطراف المشكّلة للعقل "الحداثي" عندنا في نوع من "الريبيّة" أو العداء تجاه "الأطروحات الإسلامية" في كل صيغها الإخوانية والسلفية وغيرها، بل اشتراكها في نوع من "التحييد النسقي" للإسلام، بما هو جملة من العقائد والقيم والشرائع والرموز والغايات النهائية للوجود.
 
 ولم يكن 14 جانفي مجرّد سقوط للنظام، بل كان أيضا-في وجه من وجوهه- سقوطا لشرعية النخبة الحداثية التي فشل أغلبهم  -بدخولهم في النظام أو بتواطئهم معه أو بارتباطهم في "الوعي الجمعي"به- في تعريف أنفسهم أو دورهم "المدني" السياسي أو الحقوقي أو الثقافي  خارج مدارات السلطة ورهاناتها السياسية (منذ الصراع النهضوي ضد بورقيبة ثم حرب التجمع المفتوحة -بقيادة النخبة"الحداثية" -على حركة النهضة بدءا من سياسة تجفيف المنابع، وغيرها من الإجراءات الأمنية والمقاربات الإعلامية والثقافية.
كانت أغلب النخب مجرّد "ملاحق" تابعة للتجمّع أو مدجّنة من طرفه؛ سواء باعتماد الإغراء والامتيازات أو باعتماد الترهيب والإقصاء -خاصة مع مناضلي اليسار الحقيقي، والكثير من التقدميين الوطنيين المشتغلين بحقوق الإنسان-. ولم تكن  نشاطات أغلب النخب إلا جزءا "بنيويا" من  آليات اشتغال السلطة الدكتاتورية، حتى نشاطات تلك النخب التي بقيت على مسافة مقبولة و"محسوبة" من مركز السلطة التجمعية وأذرعها الأمنية. فوجودها ذاته كان يمنح للدكتاتورية "وجها" ديمقراطيا، وكان يعمل "وظيفيا" على إضفاء نوع من الشرعية الزائفة على نظام ابن علي-خاصة أمام "الأصدقاء"الحداثيين في الغرب-.  ولكن ما الذي حصل بعد 14 جانفي؟
 
اعتمادا على مبدأ الاستمرارية الذي تمّ الترويج له باعتباره ما سوف يمنع من انهيار "الدولة" بعد سقوط النظام، قامت "النخبة الحداثية" التي ورثت سلطة التجمّع بصياغة وضع سياسي جديد قائم على"الشرعية الدستورية" بديلا عن مطلب شعبي كان ينادي بالقطع مع الموروث المؤسسي الدكتاتوري كلّه عبر "الشرعية الثورية". كان سلوك النخب من منظور "براغماتي" "عقلانيا" جدا، بحكمِ أنّه لا وجود في أذهانهم لـ"قطيعة" ما، وإنما مجرّد "تصحيح" لتراكمات من الأخطاء  التي حصلت ضمن "أفق حداثي" لا يقبل محصوله- أي "النمط المجتمعي التونسي"- أية مراجعة، سواء من ناحية الخيارات السلطوية "التحديثية" الكبرى، أو من ناحية العلاقات "اللامتكافئة" مع سادة النظام القديم في المركز الغربي.
 
كان الوعي الحداثي"الوارث"للمخلوع ابن علي -بعد أن كان الحليف له، أو المعارض"القانوني" المعترف به ضمن سقف معارضة "صوري"- مصرّا على أن يقتصر التغيير على إحلال نخبة"سياسية" جديدة محلّ النخب التي فقدت شرعيتها الشعبية، -مع إدماج تلك النخب التجمعية داخل التنظيمات المهيمنة على المشهد السياسي بعد 14 جانفي. لكنّ هذا المشروع "السياسي" لا يمكن أن ينجح إلا بتقديمه للوعي الجمعي، على اعتبار أنه "مشروع ثقافي" أو مجتمعي يعارض مشروعا مجتمعيا آخر. ورغم جاذبية هذا الطرح، فإنه قد وضع  من القوى الحداثية أمام  معضلة أخرى: كيف يمكن إقناع المواطن العادي بأنّ النخبة التي أدارت الدولة منذ الاستقلال، وتعاملت مع المخلوع من موضع الولاء أو المعارضة الصّورية -مهما بلغ سقفها "النضالي" المسموح لها به أحيانا- ستكون "حقّا" حاملة لمشروع تقدمي وتحرري"جديد"، وليست مجرّد قوى "محافظة" تحاول"إعادة إنتاج" الواقع القديم، مع اعتماد بعض التغييرات الصورية" عليه، لكن دون التخلي عن "الخطاب التجمعي" خاصة في موقفه من "المسألة الإسلامية" والمسألة الفلسطينية ومسألة العلاقة اللامتكافئة بالغرب، وغيرها من المسائل التي لم ينجح الخطاب الحداثي في إظهار المفاصلة أو التمايز الجذري فيها عن سياسات المخلوع و مفردات جملته السياسية ؟
 
 من هذا المنظور، لم يكن المشروع "الحداثي" بقادر على أن يخرج في أفق التلقّي الجمعي، عن كونه إعادة صياغة لأحادية الصوت التجمّعية، ولا يمكن -بمجرد وضعه في علاقة تقابل مفهومي مع المشروع"الظلامي الرجعي الديني"- أن يخرج  فعليا من هذا المأزق، بل قد يكون من الأسباب التي زادت في قناعة العديد من الفئات الشعبية (بوعيها"العفوي"البسيط)، بأنّ المشروع الحداثي هو -عند أغلب ممثّليه في الإعلام والثقافة والسياسة - مجرد مشروع"للثورة المضادة". وهو شعور لم ينقص إلا قليلا رغم حملات الشيطنة الممنهجة لحركة النهضة، ولكل القوى الطارئة على الحقل السياسي الموروث عن المخلوع ابن علي. فالنهضة-رغم كل عيوبها ورغم ضعف أدائها-  لم تكن تمثّل عند الناخب العادي إلاّ "ضمانة" حزبية -لا دينية- ضدّ العودة إلى مربع الاستبداد وضرب المنجز الثوري في مجالات الحريات الفردية والعامة. ولعلّ الحديث عن تعارض "ماهوي" أو نهائي و مطلق بين مشروعيَن مجتمعيّيَن ،هو أيضا من أهم أسباب فشل  أغلب النخب الحداثية، المصرّة على تأسيس خطابها بمنطق "الردود " الصدامية  مع النهضة، لا بمنطق البحث عن المشترك"السياسي" أو المواطني معها.
 
في خاتمة هذا المقال، يمكننا أن نطرح على النخبتين العلمانية والإسلامية بعض الأسئلة التي تصلح لهما كي يفكرا"معا" بصورة مختلفة عن التفكير الصدامي الغالب على السجال الدائر بينهما حاليا. بالنسبة للنخب العلمانية، قد يكون عليها أن تخرج من دائرة اللامفكر فيه الفرضية التالية: لقد كانت "البروتستانتية" والإصلاح الديني، هي المعبر الرئيسي للحداثة الغربية، أفلا يكون من الممكن-"نظريا" على الأقل- أن يكون "الإسلام السياسي " الذي قبل "طوعيا" قوانين اللعبة السياسبة؛ من تداول على السلطة واحتكام للإرادة الشعبية وتشارك للمجتمع السياسي مع المخالفين عقديا وقيميا، جزءا بنيويا لا غنى عنه في الانتقال "السّلس" والجماعي من "الفكر المذهبي"، المتحكّم في المجتمعات التقليدية –ومعه الفكر الاستبدادي المتحكم في تجارب التحديث المجهضة- إلى "العقل السياسي الحديث" اللازم لإدارة الاختلاف وتنظيمه داخل المجتمعات الحديثة؟  
   
أمّا بالنسبة للإسلاميين، فقد يكون من المفيد سياسيا لهم أن يتفكّروا في القضيّة التالية، إنّ الإسلامي في المجتمع الحديث لا يُفكّر لجماعة إيمانية "متجانسة "سلوكيا ومتوحدة عقديا ومرجعيا، بل هو يُفكّر في واقع اجتماعي وثقافي "معقّد" ومتعدد المرجعيات، واقع لم يعد الإسلامي فيه هو حامل الخطاب الكبير الذي على سائر الخطابات أن تكتسب شرعيتها منه، وهو ما يعني أنّ على الإسلامي أن يصوغ خطابه في إدارة هذا الواقع -مع شركاء وبالتفاهم معهم لا بإخضاعهم-، وأن يبتعد بصورة نهائية عن منطق "البديل" ويوطّن نفسه على منطق"الشريك". ولكن كيف يستطيع الإسلاميون القيام بذلك مع ترددهم حتى في القبول بالعلمانية الجزئية، وكذلك مع غلبة التدين التقليدي على أغلب قواعدهم، بالإضافة إلى غياب محاور وازن  في الجهة العلمانية يتبنى قرار "الشراكة" مع الإسلاميين بصورة مبدئية واستراتيجية لا بصورة براغماتية عابرة؟
 
باعتبار مفهوم المواطنة هو الأفق الأعلى لكل التفكير السياسي الحديث، فإنه يجعل من مفاهيم الأمّة والمذهب و الحقيقة والإسلام والكفر وغيرها من المصطلحات المشكّلة للرؤية"الوجودية" في المجتمعات التقليدية،  مفاهيم "لا وظيفية" بفهومها وصيغها وحلولها الموضوعة لمجتمعات التقليدية، وهو ما يجعلها محتاجة إلى تفاوض اجتماعي حولها بصورة تتوفر على الحد الأدنى من الشروط التواصلية كما حددها هابرماس؛ لذلك يجب على هذا المسعى الإصلاحي أن يتمّ ذلك بعيدا عن منطق "القطيعة الإبستيمولوجية" الجذرية، أو منطق الطفرة التحديثية باستعمال "الرضّة النفسية" والقرارات السلطوية الفوقية -كتلك التي استعملها بورقيبة أو أتاتورك من قبله-. فتلك السياسات لن تنجح إلا في "كبت" بعض الأفكار والمشاعر دون القضاء عليها أو حتى توجيهها لخدمة غايات تاريخية أو اختيارات جماعية مستأنفة، لا تقبل "عودة المكبوت" في كل أزمة بنيويّة تمسّ أساسات هويتها وعلاقاتها بذاتها وبمحيطها الجغرا-سياسي الإقليمي والدولي. تلك هي المسألة التي لا مفرّ للعقل السياسي التونسي-برافديه العلماني والإسلامي- من التفكير فيها بجدية، دون "إرجاء براغماتي" لن يزيد الأزمة المجتمعية البنيوية إلاّ استحكاما.
1
التعليقات (1)
سليم
السبت، 29-07-2017 01:45 م
مقال مهمّ جدًّا لفهم الصراع العلماني الاسلامي في تونس.. والذي بالرّغم من محاولات إسلاميي حركة النّهضة وبعض العلمانيين المعتدلين على غرار المنصف المرزوقي ومحمّد عبّو وآخرين، لا يزال هذا الصراع قائما ولا يبدو أنّه سينتهي في الأفق القريب..