كتاب عربي 21

من أرشيف الذاكرة: في ضيافة الدكتور هشام شرابي

عزام التـميمي
1300x600
1300x600
رحم الله الدكتور هشام شرابي (1927-2005). 

دعاني في أواخر عام 1998، بعد حصولي على الدكتوراه بشهور، لتقديم مداخلة في مؤتمر نظمه في واشنطن حول مشروعية المقاومة.

لم ألتق الدكتور شرابي من قبل، ولا أظن أنني التقيت به من بعد.

كان الحضور كثيفا، والطرح جريئا.

قدمت في المؤتمر ورقة حول فهم حركة حماس لجذور الصراع في فلسطين. 

أظن أن بعضا مما قلته لم يسمع به بعض الحضور من قبل.

بل كثيرون منهم كانوا قد كونوا انطباعات مخالفة تماما لما طرح عليهم في ذلك اليوم.

باختصار، قلت إن مشكلتنا في فلسطين ليست مع اليهود.

فهم في ديننا أهل كتاب نسالمهم ما سالمونا، ونعايشهم بالمعروف. وهذا كان حالهم عبر تاريخنا.
إنما مشكلتنا مع مشروع استعماري إحلالي جاءنا من أوروبا، ولم ينشأ في منطقتنا ولا من حولنا. 

قبلت فئة من اليهود أن تكون رأس حربة له، فجاءونا غزاة. وهؤلاء هم الصهاينة الذين نقاومهم.

طموحنا ليس دويلة ولا دولة، ولا يسرنا أن يكون لنا رئيس وعلم إذا ظلت ديارنا محتلة وبقي شعبنا مهجرا. 

طموحنا هو فلسطين حرة من كل احتلال. 

وفي الخاتمة أعدت التأكيد على أن هدفنا في نهاية المطاف هو تفكيك الصهيونية لأنها حركة عنصرية لا إنسانية، وتحرير بلادنا كاملة من بحرها إلى نهرها، وضمان حقنا في العودة كل إلى قريته أو بلدته التي أخرج أبوه أو جده منها، ويحرم هو حق العودة إليها بينما يمنح الحق لأدعياء هنا أو هناك لمجرد أنهم يهود، أو يدعون أنهم يهود. 

أذكر أنه كان يجلس في الصف الأول من الحضور الدكتور عزمي بشاره.

لم ألتق به من قبل، ولكن تعارفنا من بعد.

وكان من أوائل من طرح علي سؤالا بعد انتهاء مداخلتي.

قال: "ولكن حماس لا يوجد لديها برنامج سياسي. هل لك أن تخبرنا ما هو برنامجها السياسي؟"
سؤاله لم يكن خارج المألوف، كان يطرحه كثير من اليساريين واللبراليين على حد سواء في ذلك الوقت. 

فتلك كانت أجواء مشروع بدأ يتشكل على الأرض، مشروع سلطة فلسطينية ولدت من رحم أوسلو. 
وكأنه يقول: فما هو أيها الإسلاميون بديل أوسلو؟

فهمت من الدكتور شرابي أنه لم يكن مسرورا بأوسلو وإفرازاتها، وأن الألم كان يعتصره لما آلت إليه أوضاع القضية، ولهذا السبب نظم مؤتمره ذاك، بل وتجرأ أن يدعوني لأخاطب الجمهور بما كان يعتبر في عاصمة أمريكا من الممنوعات. 

وعلى رأس الممنوعات يأتي تبرير المقاومة بكافة أشكالها، والدفاع عن مشروعيتها. 

لا أذكر كيف وصل إلي، ومن أشار بي عليه أو دله علي.

كم أكبرت في الرجل تحديه لما بات أمرا واقعا مرا في سياسة الشرق الأوسط.

أجبت الدكتور عزمي بكلمات قليلة خلاصتها "برنامج حماس هو المقاومة .. وإلى أن تتحرر بلادنا فلن نحتاج إلى برنامج سياسي سوى المقاومة."

لا أدري حينها إن كنت قد أقنعته بإجابتي أم لا.

امرأتان ممن كانتا في القاعة بدت عليهما أمارات الاقتناع، بل والإعجاب.

أما أولاهما فكانت الكاتبة والصحفية المخضرمة غريس هالسيل(1923-2000)، التي أشعرتني منذ تلك المداخلة أنني ابن أو شقيق لها. 

لازمتني مثل ظلي، وأجرت معي لقاءا لمطبوعة اسمها "واشنطن ريبورت أون ميدل إيستأفيرز"، أي: تقرير واشنطن حول شؤون الشرق الأوسط.

فيما بعد، كانت تحرص على التواصل معي وترسل لي نسخا من كتبها التي تتحدث عن المسيحية الصهيونية في أمريكا وتحثني على توزيعها ليعرف الناس حقيقة ما يجري في أمريكا.

لقد نذرت حياتها منذ ريعان شبابها للدفاع عن المستضعفين في الأرض. وكانت الأعوام الأخيرة من حياتها وحتى وفاتها مكرسة للدفاع عن مستضعفي بلادي، واختارت سبيلا إلى ذلك الكتابة عن دور الجماعات المسيحية الصهيونية في دعم الاحتلال اليهودي الصهيوني لفلسطين. 

وأما المرأة الأخرى فكانت أقرب إلى المعسكر المقابل.  

جاءتني في فترة الاستراحة ما بين جلستين من جلسات المؤتمر. 

كنت واقفا في الشرفة أحتسى فنجانا من القهوة. 

أقبلت علي وسألتني بأدب جم: "أتسمح لي؟" تقصد أن تنضم إلي وتحاورني. 

قلت: "أهلا وسهلا بك."

عرفتني على نفسها، إنها أكاديمية يهودية تعمل قيما على متحف المحرقة (الهولوكوست) في واشنطن.

قالت: "لقد استمعت إلى مداخلتك بكل اهتمام. بعض ما قلته مرعب. ولكن يؤسفني أنه صحيح." 
سألتها: "ما المرعب فيما قلت؟"

قالت: "يبدو لي مما قلت إنه لا تفاهم ولا تسوية ولا حل. فإما أنتم وإما نحن."

قلت: "وما الصحيح؟"

قالت: "لا يدوم ظلم ولا يبقى استعمار طالما استمر ضحاياه في مقاومة."

قلت: "ليس من الضرورة أن يصل بنا الأمر إلى النهاية المأساوية إما نحن أو أنتم. كل ما نريده هو الاعتراف بحقوقنا، وبأن ما وقع علينا من ظلم كان خطيئة في حقنا. إذا حصل ذلك، فيمكن بعدها أن نتفاهم وأن نتعايش. فنحن كما قلت في مداخلتي مشكلتنا ليست معكم كيهود، إنما مشكلتنا مع الذين غزوا ديارنا وأخرجونا منها ظلما وبغيا. إن صراعنا هو مع فكرة ترى اليهودي ابنا للإله وترى غيره عبدا يستباح دمه وماله وعرضه، مشكلتنا مع الصهيونية."

سكتت لبرهة ثم سألتني: "لو دعوتك لجولة داخل المتحف هل كنت ستلبي؟"

قلت: "بالتأكيد، ولم لا. فالمحرقة جريمة من الجرائم الكبرى في التاريخ البشري، ولم تكن ضد فئة أو طائفة بعينها وإنما ضد الإنسانية جمعاء. لا يجوز بحال التقليل من حجمها ناهيك عن أن ننكرها."

ثم أردفت: "هل تعلمين أننا معشر الفلسطينيين أيضا من ضحايا المحرقة. فلولا صعود النازية، ولولا ما ارتكبه قادتها من جرائم بشعة، لما كانت دولة إسرائيل قد قامت؟ إن من ينكر المحرقة ينكر واحدا من أهم عوامل نجاح الصهيونية."

لم أحتج لأن أسهب لها في الشرح، فهي تعرف جيدا ما أتكلم عنه. 

فقط هزت رأسها، وافترقنا لندخل إلى القاعة لحضور الجلسة التالية.

كانت طائرة العودة إلى لندن في اليوم التالي، فلم يكتب لي الله أن أراها من جديد، ولم يكتب لي أن أزور متحف المحرقة. 
0
التعليقات (0)