كتاب عربي 21

يا أهالي بيت ساحور.. سلموا لنا البقرات تسلموا

طارق أوشن
1300x600
1300x600
يحكي السيد جلال، وهو مدرس متقاعد بمدينة بيت ساحور الفلسطينية، وهو يتحدث إلى الكاميرا.

السيد جلال: وصل الحاكم العسكري إلى المزرعة مصحوبا بعدد من جنوده، وكان أول ما فعله التقاط صور فردية للبقرات الثماني عشرة مع أرقامها التعريفية التي تحملها. بعدها، أمرنا بإخراجها والتخلص منها. سألته عن السبب فأجابني بالحرف قائلا: هذه الأبقار خطيرة على الأمن القومي لدولة إسرائيل.

أجبته أني لا أفهم كيف لثماني عشرة بقرة أن تشكل خطرا على الأمن القومي الإسرائيلي. لم يكن للأمر معنى. أجابني: لا يحق لك الحديث أو الاعتراض. هذا أمر عسكري ولا خيار أمامك غير التنفيذ على ألا تعود الأبقار إلى المزرعة  تحت طائلة الاعتقال أو السجن.

المشهد من فيلم (المطلوبون الـ18 - 2015) للمخرجين الفلسطيني عامر شوملي والكندي بول كانون.

قد لا تختلف لهجة دول الحصار المفروض على قطر عن لهجة الاحتلال الصهيوني، وهي ترسل بلائحة شملت ثلاثة عشر "مطلبا" مع الوسيط الكويتي، هي أقرب ما تكون لوثيقة استسلام وتفريط في السيادة، مع تحديد مدى زمني لا يتجاوز العشرة أيام للتنفيذ، قد نتفهم أن تصدر عن منتصر في حرب وليس عن تركيبة رباعية "متناقضة الأهداف" لم تنتصر بعد في حرب ولا فازت في مواجهة،. لم تنتظر كثير من الدوائر المعنية بحل الأزمة الخليجية الرد القطري برفض "لائحة الاستسلام"، لتعرب عن استغرابها لما تضمنته اللائحة من مطالب اعتبرتها دليلا على عدم جدية الدول المحاصِرة في البحث عن حل يؤدي إلى المصالحة المرجوة.

وحده قرقاش تغافل عن مضمون اللائحة، الذي حاد في جانب كبير منه عن تمويل الإرهاب، وانبرى متهما الدولة المحاصَرة بتسريبها رغبة منها في إعاقة جهود الوساطة. لا تتريب على الرجل فما هو إلا عبد مملوك ينطق بلسان سيده أو أسياده.

لم تشمل لائحة الثلاثة عشر ما يفيد أن البقر معني بالأزمة الخليجية، لكن قناة العربية استبقتها بالحديث عن بقر، استورده مستثمر قطري، يعاني الحر ونقص الحليب دليلا على نجاح الحصار وفشل المساعي القطرية لإفشاله. هكذا انتقلنا من الحديث عن تجفيف منابع تمويل الإرهاب إلى حديث عن تجفيف منابع حليب البقر.

لنعد لقصة فيلم (المطلوبون الـ18)..

مع بدايات العام 1988، أي شهورا قليلة على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، توجهت شاحنة من مدينة بيت ساحور إلى مستوطنة إسرائيلية، بالقرب من الخليل، قبِل أحد أفرادها بيع الفلسطينيين ثماني عشرة بقرة كان الهدف من ورائها تحقيق الاكتفاء الذاتي للمدينة من الحليب، كإجراء اقتصادي يدخل في إطار المقاومة الشعبية التي كانت في بداياتها. كانت بيت ساحور تعتمد في سد احتياجاتها على تعاونية إسرائيلية باسم تنوفا.

يقول المدرس جلال، الذي تم تكليفه باستقدام الأبقار: في اللحظة التي شاهدت فيها البقرات في المزرعة شعرت تماما أننا بدأنا نحقق حريتنا واستقلالنا. وبمجرد دخولها إلى بيت ساحور قررنا مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. أما الدكتور ماجد نصار فقد أضاف: من الأهداف الأساسية لأي نظام احتلال أن يشعرك في دواخلك بدونيتك كإنسان لا يرقى لمستوى المحتلين. لكننا كفلسطينيين نستحق أن يكون لنا بيت وبلد وأن نكون أحرارا وأن نربي أبقارا.

في البدء، واجهت قوات الاحتلال الأمر بكثير من اللامبالاة، فهذا ضابط إسرائيلي يقدم شهادته: كنت على علم بموضوع مزرعة الثماني عشرة بقرة. لكني قلت أن هذا العدد لن يمكنه تلبية متطلبات مجموعة قليلة من المستهلكين، فكيف له أن يستجيب لحاجات مدينة كاملة؟

حققت بيت ساحور اكتفاءها الذاتي وطردت شاحنات تعاونية تنوفا الإسرائيلية، وصار نموذجها النضالي، المبني على مقاطعة إسرائيل ورفض دفع الضرائب وغيرها، خطرا يتهدد الاحتلال الذي كان متوجسا من انتقاله لبقية مناطق الضفة الغربية كما جاء على لسان الضابط ذاته، بل على لسان إسحاق رابين، وزير الحرب الاسرائيلي وقتها، الذي وعد بتركيع المدينة فبادر بمصادرة ممتلكات الأهالي مقابلا للضرائب المستحقة وحصار المدينة، وهو ما دفع المندوب البريطاني في مجلس الأمن للمطالبة بتوقيف تلك الإجراءات. 

استمر بحث القوات الإسرائيلية عن البقرات ثمانية أيام، شارك فيها عدد من الجنود وطائرتي هيلوكبتر، فيما ظل جيب عسكري يجوب الأحياء ومكبر الصوت ينادي: يا أهالي بيت ساحور.. سلموا لنا البقرات تسلموا..

لائحة المطلوبين لدى الدول الأربع صدرت، قبل لائحة المطالب التعجيزية، وشملت تسعة وخمسين اسما وجمعية لا أبقار بينها بل شيوخا وإعلاميين وسياسيين وعسكريين وجمعيات خيرية. لكن إعلام دول الحصار لم يختلف كثيرا في تكراره لأزمة مكبر الصوت الصهيوني مع مراعاة تعديل المكان المستهدف والأسماء.

بدأت القضية بعملية قرصنة منظمة واختراق إجرامي فتلفيق تصريحات فحديث عن حصار تحول إلى أزمة خليجية فأزمة قطرية فمقاطعة. وكلما حوصر الأفاقون، الذين ينطقون بما لا يعرفون أو ما يملكون عليه دليلا، غيروا شعار الحملة دون قدرة على الإبداع في التفاصيل.

في موضوع الأربعة آلاف بقرة، يقول المستثمر القطري أن الوقت قد حان للعمل من داخل قطر. ولم تكن النخوة العربية كافية لتكون جنسياتها عربية أو إسلامية بل استرالية وأمريكية طريق شحنها الوحيد أجواء دولية رفعت التكاليف خمسة أضعاف. وفي فيلم (المطلوبون ال18)، اعتبر المدرس جلال أن الموضوع كان شعورا بتحقق الحرية والاستقلال الوطني. ولم يمنع الاحتلال الصهيوني أن تكون  البقرات من مستوطنة اسرائيلية قريبة تكفي المشترين مزيدا من التكاليف والأعباء.

وعندما تصير الأبقار سلاحا في يد دول عربية "شقيقة" أبت إلا أن تحاصرها شقيقتها "الصغرى" بمن فيها من المسلمين وأهل الكتاب في شهر رمضان، فلا ضير أن تحولها قناة العربية وكثير من الوسائل "الإعلامية"غيرها لمادة أساسية في معركتها التلفيقية.

الموضوع كله مختصر في قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب:
قمم.. قمم
معزى على غنم
جلالة الكبش
على سمو نعجة
على حمار بالقدم
وتبدأ الجلسة
لا ولن ولم
والدفع كم؟!
........
ما أقبح الكروش من أمامكم
ما أقبح الكروش من ورائكم
ومن يشابه كرشه فما ظلم
قمم.. قمم.. قمم..
معزى على غنم......
0
التعليقات (0)

خبر عاجل