كتاب عربي 21

تونس عضوة في نادي الدول الديمقراطية

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
هل ستختلف تونس بعد انتخاباتها التشريعية عن تونس قبل ذلك الموعد الهام ؟. سؤال حيوي ستجيب عنه الأيام القامة. لكن المؤكد أن هذا البلد الصغير الذي يحمل وراءه تاريخا طويلا يمتد إلى أكثر من ثلاثة ألاف سنة، يمر حاليا بلحظات استثنائية لم يشهدها من قبل. لحظات قد لا يدرك أهميتها الكثير من التونسيين بسبب انغماسهم في تعقيدات الحياة اليومية، لكن بالتأكيد أن التاريخ سيذكرها وسيسجلها، وستتحول إلى تراث تحتفظ به ذاكرة الأجيال المتعاقبة.

جاءت الانتخابات التشريعية لتؤكد أن الشعب التونسي على علاته قادر أن يحدث المفاجأة، وأن يصنع الاستثناء. هذا البلد تهيأ فعليا لتأصيل مبدأ التداول السلمي على السلطة، وتكريس سيادة الشعب، وقد تجسد ذلك اليوم في انتقال الحكم من حركة النهضة وحلفائها إلى حزب نداء تونس ومن سيتحالف معه. تم ذلك في كنف المشاركة السلمية والهادئة، ورضي بالنتائج الجميع، وقد هنأ راشد الغنوشي خصمه السياسي الباجي قايد السبسي، مما بين أن النخبة قد وعت بأن مسؤوليتها في هذه المرحلة المفصلية هامة وضرورية.

في تونس اليوم محاولة جادة في إعادة بناء الحكم وفق مبادئ مختلفة عما كان عليه من قبل، وذلك من خلال توزيع آليات اتخاذ القرار وتوسيع دائرة الأطراف المشاركة في صنع السياسات. وهو نمط جديد في إدارة الشأن العام، وضع الدستور ملامحه العامة، وحدد أطرافه بدقة. وهو نمط مختلف جذريا عما كان عليه الأمر والنهي منذ أن تأسست الدولة الوطنية وصولا إلى يوم 14 جانفي 2011 حين تهاوى الحكم الفردي، وانتهت معه حقبة احتكار السلطة والثروة.

هناك من يرى في نجاح حزب نداء تونس مؤشرا على عودة النظام القديم وسقوط البلاد مرة أخرى في براثن الاستبداد. لكن تكفي الإشارة في هذا السياق إلى الجوانب التالية لندرك حجم التغييرات النوعية التي ستحدث في هذا البلد الذي يتوسط العالم العربي، رافعا يده اليمنى في اتجه أوروبا، وحامي ظهره بإفريقيا التي لم تبح بعد بكامل أسرارها. رئيس الغد يختلف كثيرا عن رئيس الأمس القريب أو البعيد. لا يتمتع بنفس الصلاحيات، ولن يكون ذاك الزعيم الأب، كما لن يكون الدكتاتور الذي يبطش بخصومه ويحكم شعبه بالخوف. سيبقى يمثل رمز السيادة الوطنية، وسيتولى منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسيكون له رأيه في السياسة الخارجية، وستكون من بين صلاحياته حل البرلمان.

 لكن مع أهمية كل ذلك، فإن السلطة العليا ستكون بيد البرلمان الذي يعطي بدوره الصلاحيات الرئيسية لرئيس الحكومة، وبمقتضى ذلك سيكون هذا الأخير هو صاحب القرار في وضع السياسات وإدارة جزء واسع من شؤون الدولة. وهذا يعني أن حقبة النظام الرئاسوي أو حتى الرئاسي باختصاصاته المطلقة ويده الطولى ستنتفي في تونس. لن يستطيع الحزب الفائز في هذه الانتخابات أن يعيد العجلة إلى الخلف. 

لن يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تتجه البلاد نحو الديمقراطية المحلية، لأنه بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة سيجد التونسيون أنفسهم أمام الجزء المتبقي من المسلسل الانتخابي. تنتظرهم الانتخابات البلدية التي ستفرز بلديات منتخبة وممثلة، وتتمتع بصلاحيات إدارية ومالية واسعة جدا. وبعدها مباشرة ستدور انتخابات المجالس الجهوية، التي ستشكل مدخلا لإخراج الجهات من وضعية التابع للسلطة المركزية إلى وضعية الطرف الشريك في إدارة الشؤون المحلية. بمعنى آخر، لن يبق القرار محتكرا من قبل الحكومة، وينتظر تحويله من العاصمة إلى الجهات، وإنما يصنع جهويا وينفذ بالتنسيق مع الوزارات المعنية حسب القطاعات.

حتى القضاء، الذي بقي لعشرات السنين تحت هيمنة ووصاية السلطة التنفيذية، يحدث في داخله حاليا انقلاب تاريخي غير مسبوق. لقد كان رئيس الدولة هو الذي يتصدر قصر العدالة ليفتتح في كل سنة انطلاق السنة القضائية، وذلك باعتباره رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والذي يتولى هو ايضا تعيين القضاة بمختلف رواتبهم. استمر ذلك لأكثر من نصف قرن، إلى أن جاءت الثورة فقوضته من أساسه.

وكانت اللقطة التاريخية التي أشعرت التونسيين بأن بلادهم تتغير، وأن دماء الشهداء لم تضع سدى، وذلك عندما لاحظوا في افتتاح السنة القضائية هذه المرة، أن المواقع قد تغيرت. فعوض أن يكون رئيس الدولة جالسا في وسط المنصة الرئيسية كما جرت " العادة " معلنا افتتاح السنة القضائية، وجدوا الرؤساء الثلاث، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس الوطني التأسيسي، يجلسون أمام هيئة القضاء العدلي التي تم التوافق عليها قبل أشهر، وبذلك تعاكست الأدوار، وتمتع القضاة لأول مرة باستقلاليتهم عن السلطة التنفيذية.

يمكن ضرب أمثلة عديدة في هذا الاتجاه، لتشمل الإعلام، والعدالة الانتقالية، وغيرها من الهيئات الدستورية ذات الصلاحيات المختلفة. لقد تم تفتيت السلطة المركزية، ووضعت آليات كثيرة للحيلولة دون مركزة القرار في قبضة شخص واحد أو مجموعة ضيقة من أصحاب المصالح والنفوذ الذين يطوفون حول الدكتاتور.

هذه تونس الغد التي رسمت ملامحها في وثيقة الدستور، وبدأت تعبر عنها المؤسسات الناشئة والتي أخذت تتحرك خلال هذه المرحلة. أما التجاذبات الجارية حاليا بين الأحزاب وذوي المصالح المتعارضة، فذلك جزء من الاختبار الجماعي لشعب لا يزال في بدايات خوضه لغمار الديمقراطية الناشئة. الذي حدث في هذه الانتخابات أن تونس اليوم وغدا أصبح بها حزبان كبيران تستند عليهما الحياة السياسية خلال المرحلة القادمة.

صحيح قد يؤثر ذلك على هذه الصورة التي نحتها الدستور، لكن المؤكد أن تونس قد بدأت تتغير، وسيكون من الصعب جدا أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. ولهذه الأسبا كلها تم الترحيب بتونس باعتبارها الدولة العربية الوحيدة التي توفر لديها الحد الأدنى من شروط الدخول إلى نادي الدول الديمقراطية.  
التعليقات (0)