كتاب عربي 21

تونس.. صراع العُمقين

محمد هنيد
1300x600
1300x600
بانتخابات اليوم يَبلغ الشعب العربي في تونس مرحلة جديدة من مراحل الصراع المحموم ضد بنية الاستبداد المتوحشة.

تلك البنية التي قُطع رأسها فجأة فجر شتاء بارد من شهر ديسمبر/ كانون الثاني من سنة 2010 وتحديدا يوم السابع عشر منه. هاته المرحلة يبلغها الجسد الثوري العربي سليما باعتباره الناجي الوحيد من معاول الدولة العميقة وسكاكين الثورة المضادة ومشارطها وقد أدمت الجسد الثوري الليبي وذبحت الجسد الثوري المصري ودمرت كل الجسد الثوري السوري وأحرقت أجساد أطفاله ببراميل الأسد القومية والقادمة ساخنة وعلى عجل من ديار الثورة الإسلامية.

لم يهرب بن علي أمام نخب العار الوطنية بل هرب أمام حركة الغاضبين من فقراء الريف التونسي العميق هرب أمام الحركة التي دشنها الأحرار في تالة وبوزيان والرقاب وفي سيدي بوزيد والقصرين وسليانة وفي جندوبة وقفصة - قفصة قلعة قلاع النضال- ثم توجتها عاصمة الثوار وقلعة الصمود مدينة صفاقس الصامدة أبدا قبل أن تصل الموجة إلى أحزمة الفقر في أحياء العاصمة تونس وتدك صرح المركز . لم يهرب بن علي أمام المعارضة المزيفة في الداخل و الخارج من تجار الثورة ونخاّسي حقوق الإنسان المعدلة جينيا لم يهرب من مهرّبي الديمقراطية المغشوشة ومورّدي الحداثة المزيفة بل هرب أمام زحف الآلاف من الفقراء والمحرومين والمسحوقين من "أولاد الحفْيانة ".

هرب الرجل عندما كانت "نخب العار الوطنية" تقايض الدكتاتور علي إسكات الجماهير مقابل جزء من الكعكة وترقُب على مقاعدها الوثيرة في لندن وباريس صراع الحفاة العراة مع فرق الموت وقناصة النظام تنتظر حتى تستفرد بالفريسة عند سقوط أحد الطرفين وها هم يتقاتلون اليوم على المناصب في تونس دون أي اعتبار للحفاة العراة الذين حرروهم هُم من بن علي. هرب رأس النظام إذن لكن الآلة التي كان يقف على رأسها لم تهرب معه وهي التي نعبر عنها بالدولة العميقة باعتبارها المحرك الأساسي للثورة المضادة بأذرعها الخمسة المالية والأمنية والإعلامية والقضائية والنقابية. الصراع اليوم ليس بين رجال بن علي من ناحية والأحزاب السياسية المنتخبة أو أحزاب الثلاثي من ناحية أخرى أي حزب التكتل وحزب حركة النهضة وحزب المؤتمر من ناحية أخرى فهؤلاء وغيرهم لم ينجزوا الثورة ولم يدعوا إليها في الحقيقة. إن الصراع أعمق من ذلك بكثير. 

الصراع اليوم هو صراع بين الدولة العميقة أو الهيكل اللامرئي للاستبداد بأذرعه الخمسة من ناحية وبين الوعي الثوري الجديد والقوى المعبرة عنه - والتي لا تظهر على السطح- من ناحية أخرى.
 
بن على لمن لا يعلم نظام فكري ونسق رمزي بن علي منولات تجفيفية متوحشة بن علي طراز تغريبي حاد المقاطع بن علي ثقافة وأنماط سلوكية بن علي تعليم وتغييب وآليات حادة في استئصال خلايا الهوية العربية المسلمة التي قد تنتج الوعي المُهدّد لتأبُّد الاستبداد. هاته الخلايا هي كابوس نظام الاستكبار العالمي قبل أن تكون كابوس بن على نفسه باعتباره الوكيل طيّع لهذا النظام . قُل ما شئت في بن علي فلن تجانب الصواب هو مستبد طاغية جاهل لا يرحم لكنك لا تستطيع أن تنكر أنه كان من أعظم المهندسين لأقفاص النخب التونسية وأفخاخ الأحزاب السياسية أوقع في شباكه كل  " نخب العار الوطنية " وأكثر المعارضين شراسة حتى أن منهم من وضع ثقته ثانيا في "بن على" بَعد " الرحمان الرحيم " طبعا ومنهم من أرسل فجر " التحول المبارك " وانقلاب 7 نوفمبر 1987 يدعو للعمل مع الرجل ومنحه الثقة علّه يتنعم عليهم ببعض الكعك محشوا بالديمقراطية وكلاهما يعلم أنه شرطي انقلابي لا يرحم وليس من عادته أن يتقاسم الكعك مع أحد.

الواقع والأرضية اللذان خلفهما هروب بن علي لم يكونا ليخطرا على بال أكثر الثوريين تفاؤلا بالتغيير بعد أن سقط رأس النظام.

هذا الفراغ أفزع مراكز الاستشعار العالمي التي أسرعت بإصدار الأوامر وتنصيب رئيس جديد للبلاد في مشهد انقلابي فاضح. كان ذلك قبل أن تنفجر الثورة المصرية فيتجه العالم بمراكز استشعاره صوب ميدان التحرير. 

أما النخب السياسية الإيديولوجية بنوعيها أي تلك التي تربت على أوامر بن علي وعصاه وهداياه  وبقيت في الداخل التونسي أو تلك التي خرجت خارج البلاد وتربت على ردود أفعال بعينها تجاه سلوك الاستبداد فلم تكن جاهزة لتسلم السلطة لثلاثة أسباب مركزية في نظرنا.

أولها وأهمها أنها ليست هي من قام بالثورة لأنها لم تدْع إليها ولا طالبت بها بل الأخطر والأهم هو أن غيابها عن المشهد خلال الثورة التونسية كان الشرط الأساسي لنجاح الثورة فهي إذن لا تكتسب الشرعية اللازمة لتسلم السلطة.

ثانيا تفتتها الكبير وعدائها المرضي لبعضها البعض وهو ما يبرز جليا اليوم ومنذ هروب بن علي الذي كان في الحقيقة مصدر توحدها وتجانسها جراء فعل الاستبداد هي كذلك معارضة يتيمة يُتم أزلام بن على الذي تمكن قبل سقوطه وطيلة فترة حكمه من شراء ذمم أغلب الثورجيين الذين كانوا و مازالوا إلى يوم في سوق النخاسة الثورية يعرضون خدماتهم مقابل مقعد هنا أو مصطبة هناك. ثالثهما جوار إقليمي وعصا أمريكية غليظة لن تسمح لأحد بالوصول إلى السلطة في مزارع الاستبداد العربية دون ضمانات خطية برعاية مصالحها التوسعية في العالم مع الشركات والدول والقوى التي تعمل تحت إمرتها.

الصراع الحقيقي ليس بين النخب الوريثة للسلطة اليوم وبين أزلام بن علي هو صراع أعمق من ذلك بكثير بين الدولة العميقة بآلاتها الجبارة وبين النفَس الثوري الأعمق الذي أطاح برأس الاستبداد. هو صراع بين نفس ثوري الجديد قادر وحده على إحياء الخلايا المتكلسة في الوعي الجمعي التونسي ثم العربي وذلك بتأصيل أركان الهوية العربية الإسلامية تأصيلا يسمح بتجاوز حالة الانقسام والفوضى الناجم عن غياب المرجعيات الحضارية الثابتة وغياب الأدوات المعرفية القادرة على قراءة هذه المرجعيات والمدونة الملازمة لها وتفكيك شفرتها الداخلية تفكيكا يسمح لها بتكوين الأسس المعرفية والحضارية الحقيقة لكيان جديد لا يكون إلا معرفيا تربويا أو لا يكون .  
التعليقات (8)
ابو القاسم
الأحد، 26-10-2014 12:11 م
شكرًا على المقال والنصر لثورة تونس
ندى
الخميس، 23-10-2014 06:02 م
مشكور دكتور محمد هنيد سينتصر أولاد الحفيانة في نهاية المطاف تحية لك من قفصة المناضلة
Lotfi
الخميس، 23-10-2014 05:33 م
Bravo m mohamed un très parfait article
ميسم
الخميس، 23-10-2014 03:04 م
انها فعلا نخب العار الوطنية
لطفي أولاد بن حفصيّة
الخميس، 23-10-2014 12:53 م
في نظري، طبيعة الصّراع في تونس متعدّدة الواجهات؛ ثقافية، ايديولوجية ، جهويّة ... لا أشاطرك الرّأي سيّد هنيد في إختزالك لهذا الصّراع في وجود وازع الثّوريّة عند التّونسي من عدمه. فمن حكم تونس منذ إستقلالها إلى حد 23 أكتوبر 2011 تعمّد إخفاء حقيقة أنّ الشّعب التّونسي "ليس شعب واحد كما رُوِّج له" بكلّ المقاييس الثّقافيّة و الإيديولوجية و الجهويّة ( تنمويّاً). فسياسة التّغريب باتت نمط حياة عند التّونسي ، و إديولوجيّة مناهضة الدّين أصبحت العملة الأعلى قيمة في سوق صرف الفِكر ، و الجهويّة بلغت من التّحقير ما عانت منه جنوب إفريقيا أيّام الأبّرتايد. أستاذ هنيد، من تُسمّيهم أنت النّخبة، أسمّيهم أنا " سبب النّكبة" ، في تونس و في غير تونس، فأغلبه نُخبة بلاط لا تصلح لغير الإحتفالات أو الإنتصاب على منابر الإعلام الرَديء إجمالا مثلهم كمثل المومسات السرّيّة التي تتمعّش من خنائها الفوضوي. رغم ذلك كلّه الشّعب العربي مازال ينبض ثورة في تونس و في كلّ الدّول العربيّة ، فقط يجب الإسرار على التّفصّي من جبروت الطُّغَاة من الحكّام و حاشيتهم.