لم يكن السؤال، منذ تولى الرئيس
يانكوفيتش حكم أوكرانيا، ما إن كان الشعب سيثور عليه في النهاية أم لا؛ بل كان متى. ينتمي فيكتور يانكوفيتش للبيروقراطية الشيوعية التي تولت مقاليد البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في صيف 1991، وكان هدف ثورة أوكرانيا ‘البرتقالية’ في 2004، التي اندلعت بعد تزييف يانكوفيتش (الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء) الانتخابات وتأمين فوزه برئاسة البلاد.
وبالرغم من أن الثورة أنتجت دستوراً جديداً، وأعطت المعارضة رئاستي الجمهورية والحكومة، إلا أن الانقسامات بين الحكام الجدد أعادت يانكوفيتش رئيساً للحكومة لفترة قصيرة. حققت زعيمة المعارضة يوليا تايموشنكو فوزاً متوقعاً في انتخابات 2007 البرلمانية، ولكنها أخفقت في تحقيق فوز آخر في انتخابات شباط/فبراير 2010 الرئاسية، التي أعادت يانكوفيتش رئيساً للجمهورية. الضغوط والتدخلات الروسية، من جهة، وسوء إدارة تايموشنكو لشؤون البلاد والعلاقة مع روسيا، أفسحت المجال لعودة رجال البيروقراطية الشيوعية للحكم في ردة سافرة على دستور وآمال ثورة 2004. ولكن يانكوفيتش لم يتعلم الدرس. خلال السنوات الأربع الماضية، تراجعت مقدرات أوكرانيا الاقتصادية، الهشة أصلاً، بصورة فادحة، وبرزت عائلة الرئيس باعتبارها مركز الثقل المالي والسياسي في البلاد.
ما أطلق شرارة انتفاضة أوكرانيا الثورية الثانية في عشر سنوات كان العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. ولكن الحقيقة أن هذه العلاقة ليست سوى تجسيد رمزي لجملة الإشكاليات الاستراتيجية، السياسية، والاقتصادية، التي تعيشها أوكرانيا منذ بروزها كدولة مستقلة قبل أقل من خمسة وعشرين عاماً.
احد المعاني التي تعزى لاسم أوكرانيا هو الحافة، أو التخوم؛ ذلك أن هذه البلاد الممتدة على سهل فسيح، يصل مساحة إلى أكثر من 600 كيلومتر مربع، اعتبرت دائماً حافة الشرق الأوروبي ونهاية غرب القارة. وقد ازدادت الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بعد انهيار الكتلة الشرقية، حلف وارسو، ومن ثم الاتحاد السوفييتي، في سلسلة الأحداث الكبرى من 1989 1991، التي وضعت نهاية للحرب الباردة.
في 1991، عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها، لم تكن روسيا في وضع يسمح لها بتحدي هذا الاستقلال، بأي صورة من الصورة. ولكن أوكرانيا تعني الكثير لروسيا، بل وللقومية الروسية. كييف ومحيطها، وليس موسكو، هي أول موطن للروس، وأوكرانيا القرن العاشر الميلادي هي المهد الأول للأرثوذكسية الروسية. وبالرغم من أن سياسة القوميات السوفييتية جعلت أوكرانيا إحدى الوحدات الفيدرالية للاتحاد السوفييتي، إلا أن فترات استقلال أوكرانيا عبر التاريخ كانت قصيرة وعابرة.
في أغلب تاريخها، انقسمت هذه البلاد التي تعرف اليوم بأوكرانيا بين الإمبراطوريات الروسية، النمساوية الهنغارية، والبولندية الليتوانية. وإن كان لروسيا ثلاث بوابات رئيسية: وسط أسيا، والقوقاز، وأوكرانيا، فإن الأخيرة هي أخطرها على الإطلاق. عبر السهل الأوكراني، مرت الجيوش الأوروبية الغازية لروسيا في حربين فادحتين وبالغتي الأثر على رؤية الروس القومية لذاتهم وعلى رؤيتهم لشروط بلادهم الجيو سياسية: الحرب النابليونية والحرب الألمانية النازية.
ولا تقل أوكرانيا أهمية، من وجهة نظر الكتلة الغربية والاتحاد الأوروبي. أوكرانيا، مساحة وسكاناً، هي أكبر دولة أوروبية خارج الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى لأن يكون الإطار المستقبلي للقارة، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وخارج حلف الناتو، الإطار الأمني للكتلة الغربية. وتعتبر أوكرانيا الممر الرئيسي، حتى الآن، لأنابيب النفط والغاز الروسي إلى أوروبا الغربية. لو كانت أوكرانيا دولة مستقرة ومزدهرة اقتصادياً، ودولة مستقلة بالفعل، كما النمسا وسويسرا، مثلاً، لما بلغ الاهتمام الغربي الأوروبي بها ما بلغه خلال السنوات الأخيرة.
ولكن أوكرانيا مهددة بالفشل الاقتصادي، مما سيشكل عبئاً كبيراً على الاتحاد الأوروبي، ولم تنجح مطلقاً في تحقيق الاستقلال عن النفوذ الروسي؛ كما ان علاقتها المضطربة بالاتحاد الروسي في العقد الماضي، أدت لتهديد أمن الطاقة الأوروبي وأطلقت مشاريع أنابيب طاقة موازية عبر تركيا وإيطاليا. وهذا ما دفع لبدء المباحثات حول اتفاق شراكة مميز بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، التي انتهت بالعرض الذي قدمه الاتحاد للرئيس الأوكراني في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، واعتبره يانكوفيتش قاسياً وغير كاف لتلبية حاجات بلاده المالية الملحة.
ولكن، وحتى قبل أن ينتهي اللقاء بين الطرفين، كان الأوكرانيون يحتشدون في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف، بهدف الضغط على الرئيس لقبول اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. في النهاية، كانت الضغوط الروسية على يانكوفيتش، الذي اعتبر دائماً حليف موسكو الرئيس في الطبقة السياسية الأوكرانية، أكبر من الضغط الشعبي. وخلال أيام قليلة، وبعد رفض العرض الأوروبي، قدم الرئيس بوتين لأوكرانيا مساعدات بقيمة 15 مليار دولار، وتسهيلات في أسعار الغاز؛ وهو ما تصوره بويتن كافياً للحفاظ على أوكرانيا خارج النفوذ الأوروبي، وما تصوره يانكوفيتش كافياً لوضع حد لحركة الاحتجاج، المطالبة بعلاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي.
بيد أن الأوكرانيين لم يبتلعوا الطعم. خلال كانون الثاني/يناير، خاصة بعد إعلان الحكومة تبني قانون منع الاحتجاج في 16 كانون الثاني/يناير، اتسع نطاق الحركة الشعبية المناهضة ليونكوفيتش، سيما في المقاطعات الغربية، مهد القومية الأوكرانية. نشرت حكومة يانكوفيتش قوات الأمن الخاصة في كييف ومدن الاحتجاج الرئيسية الأخرى، بينما بدأت قوات الشرطة في المقاطعات الغربية في التحلل ورفض تنفيذ أوامر وزير الداخلية.
في الجانب الآخر، توجهت مجموعات من المحتجين، مشكلة من أطياف مختلفة من اليمين القومي، حزب الوطن المعارض، الليبراليين، وعموم المواطنين الأوكرانيين، في احتلال مقار مؤسسات الدولة في عدد من المدن، بل ومواجهة قوات الأمن بالسلاح. طالبت موسكو كييف بحسم الموقف، ونشر أن وزير الخارجية الروسي لافروف قال للرئيس الأوكراني أن عليه أن يختار ما إن كان سيصبح ‘ممسحة’ للأوروبيين. حاول يانكوفيتش المناورة مع حركة الاحتجاج بوعود إقالة الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية؛ ولكن هدفه الرئيس كان القضاء على حركة الاحتجاج؛ وهو ما بدأ بالفعل في 18 شباط/فبراير. خلال الاثنتين وسبعين ساعة التالية، كان العشرات قد سقطوا برصاص قوات الأمن الخاصة، أغلبهم في العاصمة كييف، وجرح وأصيب المئات. ولكن الانتفاضة الشعبية لم تتراجع.
دافع المحتجون في ميدان الاستقلال عن الميدان بشجاعة واستبسال، وأخذت أعداد متزايدة في الانضمام إليهم. ومنذ مساء 18 شباط/فبراير، كانت شوارع كييف المركزية قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية، تدوي في أرجائها رصاصات قوات الأمن والقناصة، وتشتعل في مبانيها النيران، بينما نصبت الحواجز المعدة على عجل من العربات والبراميل وقطع الأثاث. ولم يكن المشهد مختلفاً في العديد من مدن مقاطعات الوسط وغرب البلاد.
في لافيف، أقصى الغرب، حيث القومية الأوكرانية في أكثر تجلياتها قوة، أشار قائد قوات الأمن إلى استيلاء المحتجين على أكثر من 1000 بندقية رشاشة من أحد المعسكرات الأمنية، في حادث واحد بين عشرات حوادث اقتحام مقار الشرطة والأمن ووزارتي الداخلية والعدل في أنحاء البلاد. خطر انحدار البلاد إلى حرب أهلية طاحنة، هو الذي جاء بوفد الاتحاد الأوروبي، المكون من وزراء خارجية ألمانيا وبولندا وفرنسا، الذي دخل في مفاوضات ماراثونية مع الرئيس يانوكوفيتش، بحضور مبعوث روسي في بعض مراحل التفاوض. انتهت المفاوضات في 21 شباط/فبراير إلى اتفاق، وقع عليه وفد المعارضة، يقضي بتوقف الحملة الأمنية ضد الانتفاضة الشعبية، تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية العام. ولكن مزاج الشارع لم يكن في وارد القبول ببقاء يانكوفيتش ولو لعدة شهور أخرى.
في الثلاثة أيام التالية، بدأ البرلمان الأوكراني، الذي شهد انشقاق العديد من الحزب الحاكم وانضمامهم للمعارضة، إجراءات تنفيذ الاتفاق ومحاولة الاستجابة لمطالب الشارع، في محاولة لمحاصرة مؤشرات الانحدار للحرب الأهلية. أقيلت حكومة يانكوفيتش، بمن في ذلك وزير الداخلية، المتهم بإصدار أوامر إطلاق النار على المحتجين؛ أعاد دستور 2004، الذي يحدد سلطات الرئيس ويعزز سلطات البرلمان ورئاسة الحكومة؛ أسقط قانون منع التظاهر؛ أصدر قانوناً بالإفراج عن يوليا تايموشنكو، التي وضعتها محكمة موالية للرئيس في السجن منذ 30 شهراً بتهمة استغلال المنصب؛ ثم صوت البرلمان بأغلبية كبيرة على عزل الرئيس. كان يانكوفيتش، على أية حال، قد رأى اتجاه الريح؛ وبعد محاولة فاشلة لمغادرة البلاد على متن طائرة خاصة، غادر إلى معقل حزبه في شرق البلاد. في 22 شباط/فبراير، وبالرغم من رفض يانكوفيتش قرار البرلمان بإقالته، صوتت الأغلبية على قيام رئيس البرلمان بمهام رئيس الجمهورية. ما تبقى هو امتحان عملية التغيير الأكبر والأكثر خطورة.
بصورة من الصور، تعبر الانتفاضة الأوكرانية عن رد الأوكرانيين على حقبة الثورة المضادة، التي أطاحت بمكتسبات ثورة 2004. ولكنها أيضاً تعبير عن رغبة أغلبية الأوكرانيين في تعزيز علاقات بلادهم الأوروبية، والحد من تدخل روسيا في شؤونهم. وهنا تكمن عقدة العقد. ما شهدته أوكرانيا خلال الأيام الحاسمة من شباط/فبراير يشكل هزيمة بالغة للرئيس الروسي بوتين، ليس فقط لسياسته تجاه ما يعرف في روسيا بالخارج القريب، أي الهيمنة على مداخل روسيا الاستراتيجية الثلاثة، ولكن أيضاً سياسة القبضة المحافظة، التي يقود بها روسيا، ويحاول أن يجعل منها بديلاً لتوجهات التحول الديمقراطي في أنحاء العالم الأخرى، سيما الشرق الأوسط ووسط وشرق أسيا.
وأحداً لا يجب أن يتوهم أن روسيا بوتين قبلت بالهزيمة في أوكرانيا. ومشكلة هذه الأخيرة لا تتعلق بوجودها في هذا الجوار الحرج وحسب، بل أيضاً في تكوينها كدولة قومية حديثة. بخلاف دول مثل ألمانيا وإيرلندا، حيث تعبر الدولة عن هوية إثنية متجانسة، يعتبر وجود الدولة نفسها هو الضامن لهوية أوكرانيا الموحدة، التي يتشكل شعبها من أغلبية أوكرانية، وأقلية روسية معتبرة، لا تقل عن 18 بالمائة من السكان، تمثل أغلبية السكان في المقاطعات الثمان الشرقية من مقاطعات البلاد الأربع والعشرين؛ بينما يتحدث الروسية كلغة أولى ما يقارب الثلاثين بالمائة. هذا، إضافة إلى مجموعات إثنية صغيرة أخرى.
وستكون هذه البنية الهشة ساحة امتحان الانتقال الرئيسية في الأسابيع والشهور المقبلة. من جهة أخرى، لا روسيا تتبنى سياسة ضم أوكرانيا وتحمل أعبائها، ولا الاتحاد الأوروبي يرغب في إخراج أوكرانيا كلية من دائرة النفوذ الروسي. وهذه هي الإيجابية، التي يمكن أن تساعد على انتقال أكثر سلاسة مما عرفته البلاد في أعقاب الثورة البرتقالية.
ما لا يقل دلالة في الحالة الأوكرانية أنها توفر شاهداً إضافياً على أن عملية التحول الديمقراطي في العالم، التي انطلقت منذ 1989، لم تصل نهايتها بعد؛ وأن العثرات التي تعيشها حركة الثورة
العربية، ليست خاتمة عملية التغيير في العالم العربي. هذه هي الحلقة الثانية في مسيرة التحول الأوكرانية، تفصلها عن الأولى عشر سنوات كاملة، لم تكن أقل وطأة من أحوال العديد من دول التغيير العربية. ولكن درس الحلقتين الأبرز أن خيارات الشعوب يمكن في النهاية أن تتحقق، طالما حافظت الجيوش على موقف الحياد. عندما يتدخل الجيش، تجر البلاد إلى الكارثة.