كتاب عربي 21

استفتاء الدستور التركي: ملاحظات عربية

1300x600
حظي الاستفتاء التركي على تعديل الدستور بمتابعة عربية كثيفة، سواء على صعيد الإعلام التابع لبعض الأنظمة السياسية في المنطقة، أو على الصعيد الشبابي/ الشعبي، حسب ما يظهر على الأقل من متابعة مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية بشكل عام. 

والحقيقة أن هذا الاهتمام بالشأن التركي ليس جديدا، وإن كان قد تصاعد بعد الثورات الشعبية العربية، وما تبعها من انتصار الثورة المضادة على هذه الثورات في عدة دول، سواء عبر الانقلابات العسكرية، أو العودة الناعمة للمنظومة القديمة، ولكن الاهتمام هذه المرة كان أكثر سخونة بفعل الاستقطاب السياسي المحموم في تركيا وفي الدول العربية ذاتها. 

وبعيدا عن الشأن الداخلي التركي التفصيلي، فإن ثمة ملاحظات مهمة من زاوية القراءة العربية للحدث، هي ما تعنينا في هذا المقال. 

أولى هذه الملاحظات هو السؤال عن سبب الاهتمام بالاستفتاء عربيا، وهو سؤال يفترض أنه غير مطروح من الأصل لبداهة الإجابة عنه، ولكن كثرة ترديده على بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي جعلت نقاشه أمرا مهما. إن الاهتمام بالشأن التركي ينطلق من ثلاث زوايا: الأولى، أن هذه الدولة هي الضلع الثالث تاريخيا وجغرافيا في المنطقة إضافة للعرب وإيران وبالتالي فإن ما يحدث فيها يوثر علينا بشكل مباشر. والثانية، تنطلق من دور هذه الدولة في الملفات الساخنة في المنطقة وخصوصا سوريا والعراق والصراع مع إسلاميي المنطقة، بما يعنيه هذا الدور من تأثر المنطقة العربية من أي تغيير سياسي كبير فيها. أما الزاوية الثالثة فهي ترتبط باعتبار تركيا تمثل منوالا للمقارنة بين وضعها ووضع العرب، وخصوصا لأنها تقدم نموذجا لديمقراطية محترمة في إقليم منكوب بالاستبداد، إضافة إلى نجاح حزب "بخلفية إسلامية"-ولا نقول إسلامي- بقيادة هذا النموذج الديمقراطي لسنوات. 

الملاحظة الثانية تتعلق بمنطلقات تأييد أو رفض التعديلات الدستورية من قبل المتابعين العرب، إذ كانت غالبية المواقف تنطلق من موقف مسبق من أردوغان وليس من طبيعة التعديلات ذاتها. صحيح أن البعض علق وبنى رأيه على قراءة ما تيسر من ترجمات للتعديلات المطروحة للاستفتاء، ولكن الغالبية كما هو واضح لم تقرأ النصوص، أو اطلعت على نصوص مجتزأة، أو لم تهتم أصلا بمعرفة التغييرات واتخذت موقفها بناء على توجهها الأيدولوجي. 

وتبدو هذه الملاحظة واضحة عند متابعة الآراء التي تحذر من أن التعديلات الدستورية ستعطي أردوغان صلاحيات "سلطانية" أو ما شابه من هذه الأوصاف، مع أن قراءة التعديلات بتجرد لا يمكن أن توصل إلى هذا الاستنتاج، إذ أن كل التعديلات المطروحة تعطي للرئيس صلاحيات تشبه ما هو موجود في كل الأنظمة الرئاسية، باستثناء مادتين يمكن اعتبارهما سلبيتين وهما المادتان اللتان تتعلقان بحق الرئيس بتعيين نواب له ووزراء دون حاجة لموافقة البرلمان وبحقه بتعيين 4 من اللجنة العليا للقضاة التي يبلغ عدد أعضائها 11 بينما يعين البرلمان السبعة الآخرين، وهذا يخالف غالبية النظم السياسية بما فيها الرئاسية التي تشترط موافقة البرلمان على ترشيحات الرئيس للوزراء وكبار القضاة ورؤساء الدوائر الرئيسية في الإدارة. أما بقية المواد فهي تعديلات عادية، بل إن بعضها يعتبر إنجازا غير مسبوق لتركيا مثل إلغاء المحاكم العسكرية وإلغاء إمكانية فرض الأحكام العرفية حتى في حالات الطوارئ. 

أما الملاحظة الثالثة فهي أن غالبية المعلقين العرب تعاملوا مع التعديلات الدستورية بالنظر إليها متأثرين باللحظة الراهنة: اللحظة التي يتبوأ فيها أردوغان موقع الرئاسة ويسيطر حزبه فيها على البرلمان. هذه الملاحظة تنطبق على غالبية المؤيدين للتعديلات والرافضين لها على حد سواء، مع أن اللحظة الراهنة لا يمكن أن تستمر للأبد، فطبيعة الأشياء هي أن يتغير الرئيس ويتغير الحزب المسيطر على البرلمان، ولو بعد حين. ولذلك فإن من الضروري الخروج من حرارة اللحظة الراهنة حتى يكون الحكم منطقيا. 

الملاحظة الرابعة تتعلق باللغة القطعية التي يتحدث بها مؤيدو ورافضو التعديلات على حد سواء، مع أن التغييرات هي خيار سياسي، وفي كل الأحوال سواء كان الاختيار نظاما رئاسيا أو نظاما برلمانيا أو مختلطا فإن هذا الخيار يحمل إيجابيات وسلبيات، مخاوف وفرصا، ولا ينفع مع مثل هذه الخيارات الحديث بلغة قطعية تتخللها اتهامات "بالخيانة" أو "التطبيل للديكتاتورية" أو "الجهل" كما شهدت كثير من النقاشات في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي العربي. 

أما الملاحظة الخامسة فهي ترتبط ببعض الأساطير التي يروجها هذا الطرف أو ذاك للتأكيد على رأيه السياسي. ومن أهم هذه الأساطير أن الاستفتاءات على قضايا مصيرية يجب أن تحصل على أغلبية مريحة حتى تعبر عن توافق. هذه الأسطورة تتجاهل أن الدساتير أصلا هي إحدى ظواهر الحداثة المرتبطة بالدولة الحديثة، حيث كانت الدساتير نتيجة لانتصار طرف على آخر في الحروب الأهلية التي شهدتها أوروبا لعقود ولم تكن نتيجة لتوافق شعبي كما يروج أصحاب هذه الأسطورة. بالطبع من الأفضل أن تحصل التعديلات الدستورية على نتائج مريحة، ولكن ليس من الواجب حصول ذلك، وهناك فرق كبير بين "الأفضل" و"الواجب"، مع ضرورة الإشارة إلى أن الاستفتاءات لا تجري إلا على القضايا الكبرى عادة كما لا يتم اللجوء لها إلا في حال وجود استقطاب عال، فمن المتوقع أن تعكس نتائجها إذن هذا الاستقطاب. 

الملاحظة الأخيرة تتعلق بحجم التناقض في المواقف لدى كثير من المتابعين والمسيسين العرب، وخصوصا ذلك التناقض المثير للأسى داخل طروحات أولئك الذين يؤيدون بشار الأسد ويدافعون عنه وعن جرائمه أو الذين يؤيدون السيسي بكل جرائمه واستبداده، ولكنهم في نفس الوقت يرفضون التعديلات الدستورية في تركيا لأنها "ستكرس أردوغان ديكتاتورا أو خليفة واسع السلطات"! هؤلاء بالطبع لا يحتاجون للنقاش، هم يحتاجون فقط إلى القليل من "حمرة الخجل" لا أكثر!