إن قصة الجزيرتين قصة كاشفة تعبر بحق عن المستبد حينما يقوم بالتلاعب بالمؤسسة التي تشكل أركان المجتمع وتمثل أدوات الحماية له ولعلاقاته، ومن المؤسف حقا أن المستبد بأدواته يتحدثون ليل نهار عن حماية الدولة ومؤسساتها، ويجعلون من ذلك شعارا لهم حينما يتحدثون في كل لحظة عن الأمن القومي وأمن الوطن ومؤسسات الدولة، وكنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى الإجابة على سؤال من الذي يهدم حقا مؤسسات الدولة، ويدعي في الظاهر أنه يحميها؟ ذلك أن قيمة المؤسسات إنما تتمثل في القيام بوظائفها وأدوارها الحقيقية المنوطة بها وتشكيل نقطة توازن في علاقات الدولة بالمجتمع، هذه الوظيفة الجوهرية إنما تشكل في حقيقة الأمر ميزان المؤسسات وفاعليتها الحقيقية.
ويأتي فريق آخر من الإعلاميين والمثقفين والمفكرين بل والأكاديميين ليتهموا البعض ممن ينتقدوا المستبد وأجهزة استبداده بأنهم يريدون أن يقوضوا الدولة، وينقضوا مؤسساتها، وهم في هذا المسار يحاولون أن يكمموا الأفواه ويجعلوا النقد نقضا للدولة ومؤسساتها، وفي الحقيقة إن الذي يهدم الدولة في أركانها والمؤسسات في أدوارها إنما هو المستبد الذي يتلاعب بتلك المؤسسات ويحاول أن يجعلها في ركابه تأتمر بأمره وتنفذ أوامره وترتكن إلى مطالبه بل ورغباته، هكذا تتكون العلاقة الشائهة والمشوهة بين المستبد والمؤسسة، فالاستبداد بحكم التعريف هو ضد كل معاني المؤسسية وفاعليتها، المستبد الفرد الأوحد يصدر عنه الأمر والقرار من غير معقب أو حوار، إنه لا يريد إلا الصوت الواحد والقطيع الذي يقاد، وإذا خرج أحد عن نص السلطة والتسلط واجهه بكل بطش وقوة وبكل ترويع وقمع.
هذه هي القصة، قصة الجزيرتين والمستبد، المستبد يتحرك في هذا الشأن يتخذ قرارا في غيبة كل المؤسسات مدعيا أنه سأل جميع الناس من الاختصاصيين، وهو كاذب، ويؤكد أن ما اتخذه من قرار ويعتبره الفاصل والفيصل، وهو افتراء، ويحاول أن يدبج كل ذلك بشؤونه المعنوية التي يدعو إليها دكاترة السلطان وعصابات الحقوقيين فيؤكدون صوابية قراره وهذا امتهان، بين الكذب والافتراء والامتهان، تصنع أهواء المستبد وتجعل من رغباته كقرارات معصومة لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، إنها حالة فرعونية في القرار وحالة فرعونية في التمرير والتغرير والتزوير، وتبدو المؤسسات في ذلك الشأن ألعوبة يتلاعب بها المستبد يتلاعب بها كعرائس متحركة من دون أي اعتبار لدور هذه المؤسسات أو قيمها أو قيمتها.
تيران وصنافير كانت كاشفة واضحة في هذا المقام، فلا دستور احترم، ولا أحكام قضائية التزم، وهو يدعو البرلمان ليضرب به القضاء، ويحشد إعلام إفكه ليتحدث عن أن جزءا من الوطن ملك لدولة أخرى، رغم صدور أحكام قضائية نافذة ونهائية، أكثر من ذلك أننا إذا ما تحدثنا عن التزام دستور هو الذي أوحى به، ووضعته لجنة الخمسين فإن نصوص الدستور تجرم فعلته ولا تجيز بأي حال من الأحوال أن يقوم أي شخص كائنا من كان حتى لو تصدر السلطة وامتلك زمامها أن يقوم بالتنازل عن جزء من أراضي الوطن، وهو إذ لم يحترم الدستور فإنه كذلك لم يرع القسم، قسم، يتحدث بالنص والفحوى على ألا يفرط في الوطن أو يضر بسلامة أراضيه، ثم يدعي المستبد المنقلب أن مرجعيته ذلك الحديث الذي ألقته على مسامعه أمه "ما تخدش حاجة حد غيرك"، هذا هو خطاب المستبد، خطاب مخادع ومخاتل، خطاب مراوغ وفاسد، خطاب يحمل التزوير ويحوطه الكذب، هذا النوع من الخطاب لا يمكن بحال أن يحمي حقا، ويسهم في تمرير التفريط في كل شيء وبيعه رغم أنه يمثل قيمة أساسية في أرض الوطن ومكانة استراتيجية في الأمن القومي.
إن قصة الأحكام التي صدرت من محاكم مجلس الدولة بدرجاتها المختلفة وخصوصا الإدارية العليا التي لا محكمة بعدها، ليشكل بحق قول فصل في الأحكام، ثم تأتي محكم الأمور المستعجلة "المستهبلة" وتصدر حكما مناقضا ويصور البعض أن حكم هذه المحكمة الأدن وغير المختصة في الوقت ذاته، هو بمثابة نقض لحكم المحكمة الأعلى في تلاعب خطير بمؤسسة القضاء وفي ضرب أحكامه بعضها ببعض، كالتي نقضت غزلها من بعض قوة أنكاثا، هذا التضارب المصنوع هو محاولة من المستبد لتهوين قيمة هذه المؤسسات واستعراض عملية تفرقها وتشرذمها، والتناقض والتضارب البادي بين أحكامها، ماذا يعني ذلك إلا أن يكون نقضا وهدما لما تبقى من مؤسسة لا يزال بعض شرفائها يصدرون أحكاما تحفظ للوطن مكانته، وتحمي للمواطن كرامته.
ومن ثم فطنت المحكمة الإدارية العليا إلى تلك الألاعيب من محكمة الأمور المستعجلة، "أنه أمام التنظيم الدستوري المحكم لا يجوز لأية محكمة تابعة للقضاء العادي أن تأمر بوقف تنفيذ أي حكم صادر من محاكم مجلس الدولة، إذ في ذلك خرق صارخ لأحكام الدستور والقانون، وافتئات على الاختصاص الموسَد لمجلس الدولة بحسبانه قاضى القانون العام في المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية، وما فتئ قائما عليها باسطا ولايته على مختلف أشكالها وتعدد صورها". وأضافت المحكمة الإدارية العليا "أن حكم محكمة الأمور المستعجلة قد تجاوز حدود ولايتها وحكمها يستوي عدما أمام دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا صاحبة الاختصاص الأصيل في نظر الطعن في الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري وصاحبة الولاية وحدها في وقف تنفيذ حكمها من عدمه. وأوضحت المحكمة الإدارية العليا عن محكمة الأمور المستعجلة في حكمها التاريخي" وقد عمدت محكمة الأمور المستعجلة بحكمها المنوه عنه فوق مخالفتها لقواعد الاختصاص الولائي المقررة دستورا وقانونا كما سلف بيانه إلى مناقشة حكم القضاء الإداري محل النزاع ونصبت نفسها محكمة أعلى لنقضه وتعديله لا قاضي تنفيذ تتحدد ولايته في إزالة ما يعرض من عقبات تحول دون تنفيذ الحكم متغافلة أو غافلة عن القواعد والأطر الدستورية والقانونية المنظمة لاختصاصاتها مما لا مناص معه من اعتبار حكمها عدما لا طائل منه ومحض عقبة مادية تنحيها المحكمة المختصة- دائرة فحص الطعون- جانبا غير عابئة به وهي بصدد ولايتها الأصيلة بنظر الطعن المعروض.
تبدو إذا المسألة في المستبد الذي يقدم خطابا شديد التناقض ولكنه يبدو متسقا في عرف الاستبداد وسدنته، لأن هذا الخطاب يقوم بتكريس تفرد المستبد وطغيانه وتأليه سلطانه وقداسة قراره رغم أنه يعبر في حقيقة الأمر عن خيانة واضحة وأساليب مراوغة فاضحة، فيتأكد لنا أن الهادم للدولة هو المستبد وأن الناقض لمؤسساتها هو المستبد، وأن المفرق لشعبها هو المستبد، وأن الحاكم بهواه ورغباته هو المستبد، وأن من يبيع وطنه أو أراضيه من دون اعتبار لحرمه وطن والتأكيد على قداسة أرضه هو المتسبد، والمفرط في موارد بلاده من ماء وغاز وكل أمر يتعلق بموارد هذه البلاد التي ترتبط بحياة عموم الناس هو المستبد، وأن هذه الجوقة التي تطبل له ويزيد صراخها مهللة للمستبد وقراراته المفضوحة إنما تشكل سدنة للمستبد وإفكه.
ماذا يمكننا أن نفعل في ظل بيئة لا يحترم فيها المستبد الدستور، ولا يلتزم قانونا، ولا يوقر قسما، ولا يمتثل لأحكام قضائية، وهؤلاء من سدنة الإفك من صحفيين وإعلاميين وكتاب الذين خرجوا بكتبهم يعلنون ملكية الجزر لدولة أخرى إنما يشكل هؤلاء في حقيقة الأمر جوقة المستبد حينما يزينون لكل أمر يتعلق برغباته وخياناته، قديما قلت إن المستبد مشروع خيانة، إنه يخون شعبه ويخون وطنه ويخون تلك المؤسسات ووظائفها، ويقوض كل ما من شأنه أن يحد ولو بقدر يسير من غشمه وطغيانه، إنها صفحة من قصة المستبد الذي يقوض كل شيء الكيان والإنسان والأوطان ومجمل العمران، فالظلم / الاستبداد مؤذن بخراب العمران.