حاز الجنوب أفريقي جي إم كوينزي نوبل الآداب (1993) على أعمال كثيرة، أهمها وأعمقها عندي «حياة وأزمان مايكل ك». مايكل كان شابا ملونا يشبه الناس البسطاء في روايات دوستويفسكي. أي العاجزين اليائسين وأسرى خلل جسدي.
إذن، لا أصدقاء في حياة مايكل كاف، وأيضا لا نساء، كما يمكن لك أن تتوقع. وعندما تشارف أمه على الموت من الإهمال في مأوى عجزة مكتظ، تتوسل إليه أن يعيدها إلى «منزلها» في منطقة كارو الصحراوية، حيث وُلِدت. أعدَّ مايكل كاف عربة خشبية - مثل عربة بوعزيزي - وضع فوقها أمه وحقيبتها وما في الحقيبة من أغراض العمر.
واجه مايكل على الطريق الطويلة عصابات كثيرة، فعاد أدراجه، هو والعربة والأم، ثم حاول الكرة مرة أخرى، فماتت الأم على الطريق. يدرك الشاب البسيط أن كل ما أرادته أمه أن تعود إلى «منزلها» ولو رمادا، فيقرر أن يضع الرماد في كيس من الورق ويذهب به إلى كارو. ويجد «المنزل» خاليا، والمنطقة مهجورة، فيقرر البقاء في أرض أمه، يقتات من زراعة بعض اليقطين، إلى أن يعكر حياته وصول هارب من الخدمة العسكرية، فيهرب هو مرة أخرى إلى أن يرى نفسه أمام بيت العائلة التي كانت تعمل عندها أمه: «لقد نجوت من المطاردة، وقد أنجو أيضا من الشفقة إذا عرفت كيف أتخفى».
حياة مايكل مثل حيواتنا جميعا، سرها واحد: المنزل! البيت. في الإنجليزية الوطن هو البيت. كل ما أرادته أمه البالغة الفقر هي أن تعود إلى منزلها ولو رمادا في كيس من الورق. وكل ما حلم به هو، على بساطته العقلية، أن يكون له بيت من طوب على حافة الصحراء. تذكرت رواية «حياة مايكل ك» وأنا أقرأ كل يوم أخبار الباحثين عن منزل في أي مكان، أولئك المطرودين من منازلهم وقد لا يحلمون بالعودة إليها حتى رمادا في كيس من ورق. كيس بني اللون، يقول كوينزي، ربما من أجل أن يكون بلون طوب المنازل. هل لاحظت اللون الطاغي على جلابية الفلاح المصري؟ إنه اللون الطوبي.
عندما تمر في شوارع باريس، أو لندن، أو نيويورك، كل يوم، ترى المزيد من الناس يفترشون الأرصفة. يسمونهم «الذين لا بيوت لهم»، مثل الأميركي مثل الأوروبي الشرقي على أرصفة باريس، مثل اللاجئين السوريين في الخيام، الملايين منهم، القضية واحدة، والمأساة واحدة: الإنسان الذي لا بيت له.
منذ سنوات قليلة، تغيرت معاني الربيع والشتاء بالنسبة إليّ. كلما حلت الوحول، أفكر في أطفال الخيام. وكلما حل الربيع أفكر في فرحهم وتحررهم من عبودية التشرد. ودائما أفكر في حال الدنيا، وعربة مايكل، وكيس الرماد.
* نقلا عن "الشرق الأوسط"