مثلما يحدث في نهاية الحروب الكبيرة... هكذا يحدث في نهاية الحروب الصغيرة. والشاهد على ذلك أن سلاح الجو الأميركي قام في آخر أيام الحرب العالمية الثانية بغارات متواصلة على المدن الألمانية. وقد نالت مدينة العلم «درسدن» النصيب الأكبر من القنابل بحيث لم يبقَ فيها حجر على حجر.
وبالمقارنة مع ما يحصل في العراق وسورية، وقبل الإجهاز على آخر فلول «داعش»، قرر أبو بكر البغدادي استخدام سدّي الموصل العراقي والفرات السوري أدوات مساومة للخروج حياً مع جماعته إلى ليبيا أو أفغانستان.
ويُعتبَر سد الموصل على نهر دجلة، من أكبر السدود وأكثرها نفعاً كونه يؤمن الكهرباء لمليون نسمة، إضافة إلى توفير مياه الشرب والزراعة لكل محافظة نينوى.
ومع هذا كله، فإن الخبراء يدّعون بأن الشقوق في بنيته الأساسية تعرضه للتصدّع والإنهيار، خصوصاً أن الارتجاج الذي أحدثته القنابل التي استخدمها الجيش سنة 2014 بهدف إخراج مجموعات «داعش» المحتلة قد أثرت على البناء.
وهكذا هدد زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، عقب الحصار الذي ضُرِب حول جماعته في الموصل والرقة، بالانتقام على الطريقة الشمشونيّة، أي عليّ وعلى أعدائي!
والثابت إن مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى بشمال العراق، تعرضت هذا الأسبوع لفضيحة إنسانية نفذتها القيادة الأميركية نزولاً عند طلب رئيس الوزراء حيدر العبادي.
ومعروف أن العبادي فضّل التعاون مع الولايات المتحدة خوفاً من هيمنة إيران على العراق بعد الانتهاء من معركة تحرير الموصل. لذلك التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمدة ساعتين، بعدما وعده بالمشاركة في مكافحة تنظيم «داعش» في العراق والقضاء على الإرهاب. ومن ثم أحاله على وزيري الخارجية ريكس تيلرسون، والدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، بغرض التنسيق حول الشؤون الأمنية.
وفي أول اختبار لتنسيق التعاون، نفذ الطيران الأميركي غارة جوية على منازل في حي موصل الجديدة، كانت كافية لإخراج مئتي جثة من تحت الأنقاض.
وسلطت أضواء الإعلام على هذه الحادثة، الأمر الذي أربك القيادة العراقية وأحرجها حيال مقاتلي «الدولة الإسلامية» الذين يتخذون من نصف مليون شخص دروعاً بشرية لحماية أنفسهم.
وكانت القوات العراقية قد تمكنت من استعادة السيطرة على الجزء الشرقي من الموصل، إضافة إلى نصف الجانب الواقع غرب نهر دجلة الذي يقسم المدينة إلى نصفين.
وقال المرصد العراقي لحقوق الإنسان إن التقارير العسكرية تشير إلى مقتل أكثر من 700 مدني في ضربات جوية نفذها «التحالف الدولي» والقوات العراقية.
الأسبوع الماضي، أرسلت إدارة ترامب مئات المقاتلين الأميركيين إلى منطقة الرقة بغرض الانضمام إلى القوات المشتركة من أكراد وسوريين يعملون تحت مظلة «قوات سورية الديمقوراطية». وانتقد شيوخ الحزب الديموقراطي هذا الإجراء، على اعتبار أن هذه الخطوة لا تمثل تغييراً دراماتيكياً في سياسة واشنطن تجاه سورية.
من الناحية السياسية، وقع الرئيس ترامب في التناقض عندما أعلن أن مهمة بلاده يجب ألا تتدخل في إسقاط أنظمة خارجية. وكان بهذا الكلام يريد استثناء بشار الأسد من هذه المعادلة. ولكنه من ناحية أخرى، لم يقدم خريطة طريق توضح ما هو دور الأسد في الحكومة الانتقالية. ولم يذكر ما إذا كانت بلاده ستشارك في عملية إعادة إعمار سورية، التي تحتاج إلى مئتي بليون دولار على أقل تقدير، وإلى سبع سنوات من الترميم المتواصل.
يلاحظ المراقبون أن الرئيس ترامب لا يكف عن تهديد إيران بفرض عقوبات، أو بمراجعة الاتفاق النووي. ولكنه في الوقت ذاته، يتحاشى انتقاد دور إيران في سورية، الأمر الذي زاد من شكوك القائلين بأنه اتفق مع موسكو حول مكانة إيران، وأن إسرائيل هي المسؤولة عن معالجة هذا الموضوع مع روسيا.
والثابت أن إسرائيل تتحدث عن امتداد النفوذ الإيراني إلى هضبة الجولان، كنوع من تبرير استعدادها لحرب خاطفة. علماً أن سيطرة إيران على الجولان تحتاج إلى التغلب على ميليشيات المعارضة الناشطة في جنوب سورية. كما إنها بحاجة إلى دعم الدروز في منطقة السويداء. كل هذه الأمور غير متوافرة في الوقت الحاضر.
وكما تشعر إيران بقيود سياسية تحدّ من تحركاتها في سورية، كذلك يشعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن حليفيه بشار الأسد وحسن روحاني لا يوافقان على كل خطواته. والسبب يكمن في تحفظه الدائم على احتمال ولادة «ربيع إسلامي» في دول القوقاز وروسيا. علماً أن الإسلام وصل إلى روسيا قبل 1300 سنة، وهو يشكل ما نسبته 15 في المئة من عدد السكان. وهم يؤمون الصلاة في عشرة آلاف مسجد، بما فيها المسجد الكبير في موسكو.
لهذه الأسباب وسواها، يصعب على بوتين الاقتداء بالنموذج الإيراني لأنه، على المدى البعيد، يمكن أن يزعزع الأسس التي تقوم عليها توجهاته العقائدية والسياسية.
ومن أجل احتواء كل هذه المتعارضات ولجم زخمها السياسي وعنفها الحربي، كان لا بد من قمة عربية تعيد للموقف القومي الموحد دوره الريادي منعاً لمزيد من التدهور والسقوط.
لذلك جاءت قمة البحر الميت لتحيي مقررات قمة بيروت 2002 التي شهدت مبادرة المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز. أي مبادرة السلام المتوازن الذي يعطي الفلسطينيين حقوقهم المشروعة مقابل ضمان الأمن الإقليمي. وظهرت تلك المبادرة كمدخل عبرت منه القضية الفلسطينية نحو أفق جديد من التسوية العادلة، لولا التعنت الإسرائيلي في مواصلة بناء المستوطنات بهدف تفكيك الدولة الفلسطينية قبل تحديد معالمها.
وحول هذا الموضوع قام الأكاديمي اليهودي آفي شلايم بوضع دراسة موثقة ضمنها كتابه «الجدار الحديدي» تؤكد وقائعه أن الحكومات الإسرائيلية كانت العائق الأساسي أمام مبادرات الحل.
وكان من الطبيعي أن يدرج وزراء الخارجية العرب مخاطر استمرار الحروب الأهلية في سورية والعراق واليمن وليبيا، محذرين من مزالق النزاع المتواصل منذ أكثر من سبع سنوات.
وبسبب الأهمية المركزية التي توليها القيادات العربية لقضية فلسطين، لذلك تركزت كلمات القادة على إعادة الاهتمام بـ «قضية العرب الأولى». ويُستدَل من مضمون الكلمات التي قيلت في المؤتمر، أن هذه القضية كانت محورية بالنسبة إلى كل المشاركين. لذلك أعطى العاهل الأردني باسم الجميع تفويضاً عربياً من قمة البحر الميت إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للتحدث باسمها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي سيلتقيه بعد أسبوعين تقريباً.
ويؤكد المشاركون تمسكهم بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، والمتمثلة بحق عودة اللاجئين وفق القرار 194 وحق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدس الشرقية.
وعلى هامش المؤتمر، قدّم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني إلى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز أرفع وسام مدني، «تقديراً لمكانته الرفيعة، وتعميقاً لعلاقات الأخوة». وتبيّن بعد انتهاء المؤتمر أن السعودية والأردن وقعتا 15 اتفاقية تجارية، إضافة إلى مذكرة تفاهم تصل قيمتها لأكثر من 3.5 مليون دولار. ووقع الجانبان أيضاً مشروع اتفاقية قرض لإعادة إنشاء وتأهيل الطريق الصحراوي الذي يربط عمّان بمدينة العقبة الساحلية.
وفي المؤتمر، أبلغ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن حكومته وافقت على مدّ خط أنابيب النفط الاستراتيجي من النجف الى ميناء العقبة. ومن المخطط أن ينقل هذا الأنبوب أكثر من مليون برميل من النفط يومياً، الأمر الذي يغطي احتياجات الأردن المقدَّرة بـ150 ألف برميل يومياً. وسيتم عبر خط آخر تأمين كميات من الغاز الطبيعي، من أجل توليد الكهرباء.
يقول المراقبون الذين رافقوا برنامج المؤتمر إن اللقاءات الجانبية حظيت بأهمية قصوى، خصوصاً اللقاء بين الملك سلمان بن عبدالعزيز ورئيس مصر عبدالفتاح السيسي. ويبدو أن اجتماعهما أزال حال البرود التي شابت العلاقات طوال السنة الماضية. كذلك شكّل لقاء رئيس وزراء العراق حيدر العبادي مع العاهل السعودي ترسيخاً للتفاهم بين البلدين سوف تظهر مؤشراته في القريب المنظور. وهذا ما لمَّح إليه الدكتور ابراهيم الجعفري، وزير خارجية العراق. ومثل هذا الاستنتاج قيل عن الاستقبال الودّي الذي أظهره الملك سلمان تجاه رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري.
البيان الختامي حمل رسالتين واضحتين: الأولى تتعلق بتمسك الدول العربية والتزامها مبادرة السلام العربية كما طُرِحت في قمة بيروت سنة 2002.
والرسالة الثانية موجهة إلى طهران، مع المطالبة بالكف عن التصريحات العدائية والأعمال الاستفزازية، باعتبارها تمثل تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
بقي أن نذكر أن الرسالة الثالثة التي حملتها «قمة البحر الميت» كانت تدعو إلى ترميم الخلافات العربية - العربية، وإلى عدم تهميش دور الجامعة العربية، وإلى خطورة المستقبل الذي تحمله التحديات والتهديدات الراهنة في العراق وسورية واليمن وليبيا...
وإن غداً لناظره قريب.
نقلا عن الحياة اللندنية