تهميش ممنهج
تعرضت القضية الفلسطينية خلال السنوات الخمس الأخيرة لعمليات تهميش منهجية من قبل أطراف عربية وإقليمية ودولية، ومن المهم التأكيد في بداية هذا التحليل على أن هذه الأطراف عاجزة فرادى ومجتمعة عن تصفية القضية، لاعتبارات تتعلق بالشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة القائمة وتمسكه بها، واعتبارات تتعلق بالمشروع الصهيوني الذي لا زالت نظرية التوسع بأشكال وطرق مختلفة أساساً في سياسات إسرائيل المنبثقة منه وكذلك اللوبي الدولي الداعم لها، الأمر الذي يُبقي أسس الصراع قائمة وغير قابلة للتسوية، وأهمها: الاحتلال العسكري، والاستيطان المتوحش، وانتهاكاتهما المستمرة ضد الشعب الفلسطيني، والقدس، واللاجئين، والعودة، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة كاملة السيادة للشعب الفلسطيني، واستمرار الصمود ومقاومة الاحتلال بشتى الطرق وبتواصل تاريخي بين الأجيال.
الأسباب والعوامل
إن ما تتعرض له القضية الفلسطينية اليوم من تهميش وتراجع في الاهتمام يتعلق بثلاثة أبعاد: الأول فلسطيني والثاني عربي والثالث دولي.
ويتناول هذا التحليل البعد الفلسطيني بشكل أساسي، وارتباطه بالأبعاد الأخرى؛ فقد أدت الخلافات السياسية والفصائلية- مدعومة بمحاور عربية ودولية- بين القوى الفلسطينية إلى إضعاف دور العامل الفلسطيني الذي يعدُّ أساس الصراع عربيا، حيث تعمل القوى الفلسطينية أحيانا عكس بعضها، وأحيانا بانحيازات تصب في إطالة عمر الاحتلال، ويدعم هذه الإشكالية الفشل الذريع في تجديد الدماء في الإطار الثوري القيادي للنضال الفلسطيني، سواء على صعيد منظمة التحرير التي شاخت وهرمت وحُيّدت مؤسساتها، أو على صعيد الفصائل بمختلف اتجاهاتها، والتي تحولت قطاعات كبيرة منها إلى واقع الانتفاع بدل فلسفة النضال، كحال النخب المحيطة بالحكم في أي دولة فاسدة أو فاشلة في المنطقة، وانعكس ذلك على الواقع التنظيمي لهذه الفصائل بتفاوت يتعلق بالبنى الأيديولوجية والعلاقات الخارجية لكل منها.
كما أن انفلات البرامج والمواقف السياسية لهذه القوى من أسس المشروع الوطني الفلسطيني القائم وقواعده على أساس التحرير والعودة استراتيجيا كشف ظهر الفصائل والمقاومة وأضعف أداءها السياسي، وجعلها لُقمة لدول مختلفة، بل أحيانا لإسرائيل، مما أفقدها زمام المبادرة في مفاصل أساسية مرت بها القضية، بل جعل بعضها يتولى مهمة إفشال الآخر الوطني لحسابات بعيدة عن المشروع الوطني.
ورغم مرارة الانقسام السياسي على مشروع التسوية (أوسلو) والخلاف الحاد على السلطة منذ عام 2007 بين حركتي فتح وحماس، وعجزهما عن تحقيق الشراكة السياسية في إدارتها، واستمرار شلل منظمة التحرير وغياب دورها كلّيا، ورفض إدماج الفصائل الإسلامية والوطنية الجديدة فيها على قواعد وطنية ديمقراطية، برغم مرارة هذا الواقع القائم وعجز قيادات الشعب الفلسطيني عن تطبيق ما تتفق عليه منذ عام 2003 وحتى اليوم، غير أن إشكاليات المشروع الوطني والإدارة الجماعية أو التوافقية أو التشاركية في صنع القرار الفلسطيني هي مرض قديم تَعمَّق بعد دخول حركة فتح لمنظمة التحرير عام 1968.
ولذلك فإن الهروب القيادي الفلسطيني المشهود اليوم من تحمّل المسئولية الأساسية عن تراجع القضية وأهميتها عربيا ودوليا ألجأ الكثيرين إلى نِسبة هذا الفشل لعوامل إقليمية ودولية وإسرائيلية، لأن الاعتراف بحقيقة الإشكال الداخلي يستلزم القيام بمبادرات إنقاذ تطال الكثير من المواقع القيادية وامتيازات النخبة في كل الفصائل، وذلك لا يُقلِّل من أهمية عوامل البيئة المختلفة بالطبع، لكنّ الهروب إليها دون الاعتراف بالأزمة الداخلية وأولوية التعامل معها يَضُرّ بالمشروع الوطني ويُلقي القضية في أحضانٍ تضيق بها ذرعا حتى من الأقربين.
العامل الفلسطيني الحاسم
وبمراجعة تاريخية مركّزة لمسار النضال الفلسطيني منذ وعد بلفور وحتى اليوم يكتشف الباحث أن العامل الفلسطيني هو العامل الحاسم في مواجهة الحركة الصهيونية والاستعمار، مع أن العوامل الأخرى أساسية ومهمة، لكنها تعتمد أساسا على العامل الفلسطيني سلبا وإيجابا، من حيث أن لديه القدرة على فرض رؤيته على الواقع وعلى أجندات هذه الأطراف وتوجهاتها، حتى الإسرائيلية منها، كما حصل مثلا بالانسحاب من سيناء بموجب معاهدة عام 1978، والانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، ومن قطاع غزة عام 2005، تحت ضغط المقاومة، وهكذا.
ورغم القمع والتعطيل، والضربات الأمنية والعسكرية، والحصار السياسي والمالي، والضغط الاجتماعي والحياتي، والممارسات الوحشية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي مخيمات الشتات في دول المواجهة العربية، إلا أن مسار النضال الفلسطيني ظل يتمتع بحيوية متصلة، وكان للأداء الفلسطيني السياسي والمقاومة، سواء على المستوى الأمني أو العسكري، والنضال القانوني والإعلامي، والنضال الاجتماعي بالصبر والتمسك بالأرض مهما كان الثمن، كان له دور كبير ومستمر في توفير الحيوية اللازمة للقضية لتعود إلى جداول الاجتماعات وإلى صدارة الاهتمامات، وإلى مزيد من الروح النضالية لدى الشعب الفلسطيني، ما أبقى القضية حيّة حتى اليوم، وقد مرّت خلال ذلك فترات طويلة وقصيرة من الجمود والانتكاس، وأحيانا محاولات للتصفية، لكن الموجة كانت تنكسر على صخرة النضال والصمود الفلسطيني كما في معركة الكرامة وقلعة الشقيف وفي الحروب الثلاثة الأخيرة على قطاع غزة.
وبذلك يبقى العامل الفلسطيني هو صاحب الوزن الأكبر فيالمشروع الوطني الفلسطيني من الناحية المنهجية والواقعية على حد سواء، وأن العوامل الأخرى في الغالب تقوم بدورها سلبا وإيجابا اعتمادا على هذا العامل، وأن الأطراف المناصرة لإسرائيل، وأطراف عربية وإقليمية تمارس ضغوطها المستمرة على العامل الفلسطيني لإضعافه كي تتمكن من تمرير سياساتها ومشاريعها أو رؤاها الخاصة ولو بالتنسيق مع الاحتلال، ولكن الحلقة تعود في النهاية إلى العامل الفلسطيني، ولعلّ المثال الأبلغ في ربع القرن الأخير هو اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في عام 1987 في لحظة انكسار عربي وفلسطيني ونشوة إسرائيلية؛ حيث ألهبت الانتفاضة بأدائها المذهل أحاسيس الشعوب العربية، وتسبّبت بالقلق لدى الأطراف الدولية والعربية، وبالطبع الإسرائيلية، حيث لم تتمكن الدراسات والتحليلات والتنبؤات لدى كل هذه الجهات من توقعها، وتسابق الكثيرون، حتى من الغرب، لإيقافها، لكنها حرّكت الجسم العربي الذي كان المفكرون والسياسيون قد نَعوه إلى الأبد.
وبمراجعة مركّزة للمشهد الفلسطيني ومشهد القضية الفلسطينية تُبدي النتائج الأولية إمكانات كبيرة وحيوية لاستعادة القضية لحضورها وقوتها وزخمها، بل ولوزنها عربياً ودولياً، الأمر الذي يوفر فرصاً جديدة وخيارات متعددة أمام القيادات الفلسطينية لتحريك القضية وإعادة الحيوية إليها، ناهيك عن الضغط على الجانب الإسرائيلي وتوفير عوامل إعاقة أساسية لأي سياسات تستهدف شطب القضية أو الضغط على القيادات الفلسطينية لتقديم تنازلات كما جرت العادة.
التأسيس لانطلاقة جديدة
ولتحقيق الإمكانية الفلسطينية والقدرة على التحول والتكيف، وبالتالي التأسيس لانطلاقة جديدة، يقترح التفكير بالاتجاهات التالية:
1- الشروع الفوري بوقف نزيف الخلاف في السلطة بين حركتيْ حماس وفتح، وبين غزة والضفة، وفق معايير بسيطة أساسها إحياء السلطة وتوحيدها وإعادة الروح إليها بشراكة سياسية تُعدّ لانتخابات عامة خلال عاميْن.
2- إعادة تجديد الدماء الشبابية والثورية في الفصائل الفلسطينية، وخاصة في حركتيْ فتح وحماس عبر انتخابات تنظيمية لهذه الغاية.
3- طيّ صفحة الخلافات الشخصية والفصائلية والجهويةلمصلحة القضية والشعب، والحيلولة دون أي تدخلات خارجية لفرض نمط من السياسات أو القيادات على الشعب الفلسطيني.
4- التراجع عن سياسة الانحياز لمحاور عربية أو إسلامية أو دولية في أي صراعات فيما بينها، ومنع استخدام القضية أو أي طرف فلسطيني في هذا الصراع على قاعدة عدم التدخل في الشئون الداخلية لأي بلد عربي أو إسلامي في مقابل عدم تدخل الآخرين في الشئون الداخلية الفلسطينية.
5- التوافق على إطلاق انتفاضة مدنية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، ضد الاحتلال، وتوفير عوامل النجاح لها.
6- العمل معاً على إعادة الروح لمنظمة التحرير، وتشكيل إطار قيادي مؤقت فاعل يلتقي بانتظام لقيادة النضالالوطني الفلسطيني.
7- الشروع ببلورة ملامح ومعالم المشروع الوطني الفلسطيني المشترك حتى إنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين وفق الرواية الفلسطينية والحقوق الوطنية.
8- وضع خطة تحرك سياسي ودبلوماسي مشترك لحشد التأييد للقضية وتفعيل الطاقات الفلسطينية في العالم وفق ملامح المشروع الوطني آنف الذكر.
وبالتأكيد فإن لدى الفصائل الفلسطينية والعقل الفلسطيني السياسي والمؤسسات والكفاءات الفلسطينية الكثير مما يثري هذه الفكرة ويطورها، لكن الأساس في هذا التحليل أن ركون القوى الفلسطينية إلى العوامل والأطراف الإقليمية والدولية سيجعل القضية ورقة مساومة بين الكبار وحلفائهم، بينما إعادة الحيوية والروح للقضية وتقوية وضعها عربيا ودوليا أساسه العامل النضالي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.