حسنا إذا... غدا أو بعد غد، سيحتفل بشار الأسد بالانتصار على أهل حلب، مثلما انتصر سابقا على السوريين في حمص وحماه وفي سائر المدن، وأخرج المحظوظين منهم إلى مخيمات اللجوء أو إلى المنافي، فيما ذهب الأقل حظا إلى القبور.
معادلة الحرب القائمة على تفوّق القوي عسكريا على الضعيف تحتّم انتصار الأسد وشركائه في جرائم قتل السوريين، فيما خنوع الدول الغربية أمام التدخل الروسي قبل عام، الذي كان حاسما في قلب موازين القوى، فرض أخيرا على أطراف المعارضة أن تجلس إلى طاولة التفاوض مع الروسي في أنقرة، لعلها تحصّل شروطا أفضل للهزيمة في حلب.
خيار أطراف المعارضة كان: القتال إلى النهاية في شرق حلب مع ما يعنيه ذلك من كارثة بشرية على حوالى ربع مليون شخص يقيمون في هذه المناطق، معرّضين للموت تحت القصف أو نتيجة الجوع، أو التفاوض على فتح ممرات لخروج السكان مع ما يرافق ذلك من تسليم مسلحي المعارضة أسلحتهم واحتمال اعتقالهم وقتلهم على أيدي جنود النظام وحلفائهم. لكن، حتى هذا التفاوض أصبح عبثيا في ظل مماطلة الروس وإصرار الإيرانيين على تحقيق انتصار كامل في أحياء شرق حلب.
الأسد ذاهب إذا إلى الانتصار، فيما العالم يتفرج على هذا الحجم الهائل من القتل والدمار، الذي وصفته الخارجية الفرنسية بأنه أكبر مجزرة ترتكب بحق المدنيين منذ الحرب العالمية الثانية. حلب تنضم الآن إلى لائحة من المدن التي قضت عليها آلة الحرب الوحشية على مرأى من العالم. هل تذكرون ماذا فعل الصرب، حلفاء الروس، في سريبرينيتسا، وماذا فعل فلاديمير بوتين في غروزني؟ وفي كل مرة كان العالم يتوعد بأن هذه المجزرة ستكون الأخيرة، ثم يتحالف العجز الغربي مع البلطجة الروسية، لتمهيد الطريق لارتكاب مجازر جديدة.
الأسد ذاهب إلى الانتصار. انتصار لا فضل فيه سوى للإيرانيين والروس ولمقاتلي «حزب الله» وسائر الميليشيات الشيعية القادمة من العراق وأفغانستان ومن كل مكان يتوافر منه مرتزقة للقتال، إلى جانب العصبية المذهبية التي صارت الراية الأبرز التي يحارب تحتها هؤلاء، دفاعا عن النظام «البعثي العلماني»!
في وضع كهذا، هل يمكن تصوّر طبيعة الدولة والنظام السوريين اللذين سيبقيان بعد هذه الحرب؟ الأسد باق على رأس الدولة فيما الروس والإيرانيون يمسكون بمقدرات الأمور على الأرض، كما تفرض حقوق المنتصرين. وصاية كاملة يمكن توقعها على القرار السوري، تشبه تلك الوصاية التي فرضها السوريون على القرار اللبناني على مدى عقد ونصف عقد من الزمن. وكان التبرير هو الغطاء الدولي والقوة العسكرية، وهو التبرير نفسه الذي سيكون جاهزا لتمكين موسكو وطهران وحلفائهما من الهيمنة على مقدرات القرار السوري.
يقول روبرت فورد، سفير أمريكا السابق في دمشق: سيبقى الأسد في الحكم. والروس والإيرانيون يهيمنون. لكن هؤلاء سيحكمون دولة نصف ميتة. سورية ستبقى جرحا مفتوحا أمام أنظار العالم.
بلد نصف شعبه مهجّر بين الداخل ومنافي اللجوء في الخارج. بلد تحولت مدنه إلى أطلال وخرائب. أهلها يعتاشون على الأعشاب وفتات الخبز المجبولة بمياه الأمطار. أطفاله مشردون من دون أية فرصة لتحصيل العلم، بعدما أصبح هاجس أهلهم الوحيد إبقاءهم على قيد الحياة. مدارس ومستشفيات ومصانع مدمرة. اقتصاد في الحضيض. هذه هي سورية التي سيخرج بشار الأسد منتصرا من حربه فيها وعليها.
بعد انتصار الأسد على السوريين، وعندما تأتي مرحلة إعادة الإعمار، التي تتجاوز تقديرات تكاليفها 250 بليون دولار، من سيموّل مشروع الإعمار هذا؟ أي دولة غربية ستكون مستعدة لإعادة تأهيل بلد يحكمه بشار الأسد؟ مشروع مارشال كان نتيجة طبيعية لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. المنتصرون يستثمرون في انتصاراتهم. لكن الدول الأوروبية التي تحمّل نظام الأسد المسؤولية عن قتل شعبه وتدمير بلده، لن تكون مستعدة لمساعدته على بناء سورية الجديدة. أما دونالد ترامب، صديق بوتين، فعينه على الداخل الأمريكي، ولا وقت لديه للاهتمام حتى بحلفاء أمريكا الطبيعيين. فيما الروس والإيرانيون محاصرون بالعقوبات الدولية، ويصعب تصوّر مساهمتهم في مشروع بهذا الحجم وبهذه الكلفة.
ينتصر الأسد. حسنا. لكنه ينتصر على شعبه. وتجارب التاريخ تعلمنا أن انتصارا كهذا ليس مؤهلا للبقاء. الشعوب هي التي تبقى، أما الأنظمة الجائرة التي تفتك بشعوبها فمصيرها الزوال مهما بدت آلة الحرب قوية وخادعة.
الحياة اللندنية