من أسوأ سوءات العمل العام وأخص منه العمل السياسي/الحزبي هو أنه يتحول عند البعض إلى احتراف و تكسب ويصبح البوابة الكبرى للمجد والشهرة والمال والوجاهة والمغالبة لا عملا تطوعيا خالصا يرجى به الصالح العام للمجتمع والوطن ولا أمرا بمعروف ونهيا عن منكر يرجى به صالح الأمة ورضى رب الأمة.
واعتقد أن هذه مشكلة تتصل بالطبع البشري المجرد تحتاج من الجميع أفرادا ومؤسسات إلى السيطرة عليها وتهذيبها؛ والتطبع يأتي دونه الطبع كما يقولون بمعنى أن محاولات تغيير وتعديل مسارات الإنسان إلى الأحسن لا تلبث إلا أن تملك النفس أكثر من الطبع المولود به الإنسان.
إن يكن من أمر فالمسألة الحزبية تحتاج منا إلى مدارسة وفهم وكثير من العلاج والأكثر من الوقاية خاصة وأنها إلى الآن لم تحسم مسألة الحكم والسلطة على النحو الذي يضمن العدل والمساواة كما ينشدها الإنسان على الأرض، إذ دخلت على خط الألاعيب أمور كثيرة حملها التطور التكنولوجي والصناعي وأبرزها بالطبع الإعلام.
أول من تنبه لهذه الكارثة مؤسس الولايات المتحدة الأمريكية (جورج واشنطن). هكذا العظماء دائما يشعرون بالخطر وهو على أطراف المدينة. كان لرواد الإصلاح الإسلامي في المشرق موقف متحفظ من الحزبية والعمل الحزبي لكن المشكلة في الموضوع أن الأحزاب ولدت يوم ولدت الديمقراطية.
(واشنطن) الذي رفض رئاسة الجمهورية لثالث مرة يعتذر عن ذلك ويخطب في أمته مودعا ومعتذرا عن الاستمرار قائلا: لقد سبق و ذكرت لكم أخطارا تجيء من وجود الأحزاب في الدولة، فدعوني أزدكم وأحذركم وأخذ يعدد في عيوب الحزبية بدءا من أن لها (جذور أرضها شهوات الأنفس العارمة) و(تسلط قادتها ورؤساؤها، تسلط هو في ذاته نوع من الاستبداد المخيف وقد يؤدي في نهاية الأمر إلى نوع من الاستبداد أكثر ثباتا) وانتهاء بوصفها (إنها قد تنفع ولكنها كالنار تدفئ وإدفاؤها في خفضها، أما إذا هي اشتعلت حتى تأججت وامتدت ألسنتها فلن تكون للدفء، ولكن للحريق الذي يأكل البيت ومن فيه). هذا رأي أحد أكبر وأهم الرجال في تاريخ أمريكا، لم يعش حتى يرى ملياردير العقارات ترامب وهو يتحضر للجلوس على كرسيه في البيت الأبيض.
ماذا فعل المال وسطوته وشركات النفط والأدوية والسلاح بالعمل السياسي والأحزاب؟ ماذا فعلت شركات الإعلان والدعاية وبرامج التوك شو والتغطيات الانتخابية والتقارير التي تبثها محطات التلفزيون العملاقة مرددة (الأكاذيب النبيلة لإقناع الدهماء بضرورة وجود الحكماء على العرش) بتكرار وإلحاح يسحق أمامه، أي محاولة للتريث والتفكر وقراءة المشاهد والمواقف بعين التبصر، والذي يسميه ناعوم تشومسكي (فبركه الموافقة)، والناس على دين تلفزيوناتهم كما كانوا من قبل على دين ملوكهم.
الديمقراطية اليوم على رواجها وانتشارها في العالم، وعلى ما يكاد يتفق الناس كلهم على كونها حتى الآن أصلح نظام حكم توصلت إليه الإنسانية لحل معضلة السلطة، التي تحفظ المجتمع ولا تبتلع حريات الناس، فإن بها من العيوب ما يحتاج إلى معالجة وحمايتها بسياج يصونها ويحمي المجتمعات من الأشرار والمغامرين أصحاب المال والسطوة، وأهم سياج هو (تمرين الناس وحضهم بكل الوسائل على مزاولة الشؤون العامة حتى تصبح رعاية المصالح العامة عادة يباشرها الناس عفو الخاطر كأنهم لا يقصدونها، مثلهم في ذلك مثل الأعضاء البدنية التي تشترك في التغذية بينها في غير كلفة، كما قال عباس العقاد) و(تعميق الرشد والإنسانية في المجتمعات، حماية للوعي الاجتماعي، وتأكيدا لعلاقة الفرد بالمجتمع لمواجهه تزييف الوعي الذي تمارسه الميديا الغربية حتى تتضح المعايير الصحيحة للحقيقة)، كما يقول هابرماس، أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت في كتابه (نحو مجتمع رشيد).
وهذا يكون بتنمية (الحاسة المجتمعية) في البيت والمدرسة والنادي والمسجد والكنيسة والإعلام، وإقامة دورات وإعطاء محاضرات وطبع نشرات ودوريات، وكل ما من شأنه أن يجعل (رعاية المصلحة العامة عادة). والحمد لله أن الاهتمام بالشأن العام في ثقافة أمتنا عبادة ولنا أن نتأمل في أركان الإسلام والتأكيد الدائم على أن تتم في منظومة جماعية.
ما أريد أن أصل إليه، هو أن الحكم الصالح ليس ديكتاتوريا، ولا بالضرورة ديمقراطيا، ولا هو بالقوانين والدساتير والمراسيم واللوائح، كل هذه أشكال وصور قد يتحقق معها الحكم الصالح وقد لا يتحقق، الحكم الصالح يكون برجال صالحين (تصلح بهم الأيام إذا فسدت ويفرق العدل بين الذئب والغنم) يؤمنون بالله ويخافونه ويخشونه، ويؤمنون بالناس ولا يخافونهم ولا يتملقونهم طلبا لأصواتهم مجافاة لحق وتنكرا لمصلحة عليا رجال يبثون الأمن والطمأنينة بين الناس ولا يعرفون منطق الحديد والنار في معاملاتهم واختلافاتهم وخصوماتهم، الناس عندهم سواسية، فالقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له كما قال أبو بكر الصديق، يبذلون من أنفسهم أكثر مما يبذلون لها، إذا غضبوا لم يخرجهم الغضب من الحق، فذا رضوا لم يدخلهم الرضا في الباطل، وإذا قدروا عفوا وكفوا.
تمضي الأمور بأهل الرأي ما ** صلحت فان تولت فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة ** لهم ولا سراة إذا جهّالهم سادوا