شهدت الأسابيع الأخيرة ثلاث جرائم اغتيال في أماكن مختلفة كان القاسم المشترك بينها القتل على خلفية فكرية؛ الجريمة الأولى مقتل شاب بتهمة التشيع في غزة، والجريمة الثانية في سيناء وكان ضحيتها شيخ صوفي ضرير قارب المئة لم تشفع له شيخوخته ولا عمى بصره عند عميان القلوب، وأما الجريمة الثالثة في ليبيا وكان ضحيتها الداعية الوسطي ذو الوجه الصبوح نادر العمراني.
هذه الحوادث التي صارت تتكرر على نحو متصاعد في بقاع متعددة من وطننا العربي تدق ناقوس الخطر، فهي تؤشر على وباء عام، وتكشف عن منظومة ثقافية توجه من يستسهلون سفك الدماء وإزهاق النفس البشرية التي حرمها الله، والمعالجة الجذرية تقتضي تجاوز التعامل الموضعي مع الحدث والنفاذ إلى طريقة التفكير التي أنتجته ومنحته الشرعية وفق نظرية بيجوبتش بتجفيف المستنقع للقضاء على البعوض.
إزاء هذه الحوادث، ليس من الحكمة إدانة القاتل وحده، إذ إن القاتل لم يكن سوى صنيعة جو ثقافي عام وناتج عملية تغذية وشحن مستمر شاركت فيه عناصر إعلامية وثقافية وتعليمية كثيرة، هؤلاء جميعهم يتحملون وزر الجريمة وهم شركاء في الدم المسفوك، ولعلنا نجد هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله". وربما كانت الحكمة من ذكر "شطر الكلمة" هو أن الجزء الأكبر من عملية التهيئة للقتل وتغذية المناخ المتفهم للجريمة يكون بالكلام ثم يكون تنفيذ الجريمة تحصيل حاصل.
لا شك أن الأجواء السياسية وتفشي الاستبداد والقتل وقهر الشعوب تتحمل جزء كبيرا من مسئولية تغذية اتجاهات العنف، لكن الإقرار بدور هذا العامل لا يجوز أن يسقط العامل الذاتي، ذلك أن الدين رسالة أخلاقية لا يتعامل بردود فعل خاطئة ولا يبرر لأتباعه الظلم والاعتداء بظلم الآخرين واعتدائهم مما ينفي صحة التعذر بأي عوامل خارجية لتبرير انتهاك القيم الأخلاقية، فإذا كان مرتكبو هذه الجرائم يقدمون عليها غالبا بدافع مفاهيم دينية مثل الجهاد ومقاتلة أهل النفاق والضلال ويظنون أنهم يتقربون إلى الله بسفك الدماء فإن السؤال الذي لا يصح الهروب منه في مواجهتها/ هل هناك حاضنة فقهية ترعى هذه الثقافة العنفية التي تقود إلى قتل الناس لأسباب مذهبية أو فكرية؟ وهل الجو الفقهي العام في بلادنا أقرب إلى السلام والتعايش والمودة أم إلى الحرب والقتال والكراهية؟
العنف شجرة خبيثة تبدأ من عالم النفوس وتسقى بمداد الكراهية والقسوة، والسلام شجرة طيبة تبدأ من عالم النفوس كذلك وتسقى بمداد الحب والرحمة، لذلك فإن الحكم على منظومة قيمية ما بأنها داعية عنف أو داعية سلام لا يبدأ بالبحث في النصوص المباشرة المحرضة على التعايش أو على القتل بل يبدأ بالبحث في مساحة الحب والرحمة التي تبثها في نفوس المؤمنين بها فإذا ملئت النفوس بمعاني الخير والرحمة والسلام فاضت رحمة وسلاما على العالمين.
يتضمن القرآن مبادئ عظيمة تبث في النفوس الرحمة والعدل والحرية والتعايش، فالله تعالى هو الرحمن الرحيم وقد أرسل نبيه رحمة للعالمين، وهو يحب المحسنين والمصلحين ولا يحب المفسدين والمجرمين، وهو الذي جعلنا مختلفين لحكمة وجعل لكل منا شرعة ومنهاجا لنتسابق في الخيرات وحثنا على الاجتماع على كلمة سواء وعلى التعارف وعلى الجدال بالتي هي أحسن وألا نقاتل إلا الذين يقاتلوننا وألا نعتدي وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها وألا نسفك الدماء وأن نحكم بين الناس بالعدل وأن نتعايش مع الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا بالبر والقسط وأن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأنه لا إكراه في الدين وأن أحدنا ليس بمسيطر على الناس ولا جبار ولا وكيل.
هذه هي المبادئ الأخلاقية العظيمة التي يرسخها القرآن في نفوس المؤمنين، لكن هل كان الفقه التاريخي ترجمة دقيقة لمبادئ القرآن؟
لو أخذنا من خطبة الجمعة عينة لخطابنا الفقهي السائد وبدأنا من الشكل الفني لوجدنا كثيرا من خطباء الجمعة يعتمدون الصوت العالي التوتيري أسلوبهم المفضل على المنابر في لقاء يفترض أن رسالته سكب الطمأنينة والسكينة في القلوب، أما مضمون الخطبة فكثيرا ما يركز على التعبئة بمزايا الذات وأفضليتها على العالمين وضلال الآخرين وانحراف عقائدهم، ويكون مشحونا بلغة النذير والوعيد والتهديد والتحشيد وتختتم الخطبة بالدعاء على اليهود ومن هاودهم والنصارى ومن ناصرهم والشيوعيين ومن شايعهم أن يحصيهم الله عددا ويقتلهم بددا وألا يبقي منهم أحدا.
الكليات الشرعية في الجامعات ليست أحسن حالا فهي تغذي الطلاب بالمفاصلة والصدام مع الخلق أجمعين مستندة إلى مفاهيم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام والفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة وتصنيف أهل البدع والضلالات والتحذير من الغزو الفكري وضلال المذاهب وإفقاد الإيمان فطريته وعفويته النابضة بالشعور وتحويله إلى شروح أكاديمية معقدة ومعارف جافة، وبذلك تحولت الجامعات والجمعات إلى ماكينات ضخ هائلة تنتج أجيالا بعد أجيال من المتشددين المعبئين بالرؤية العدائية تجاه الخلق.
لا تقتصر الخطورة على النصوص النظرية المباشرة التي تحرض على العنف، فهناك أفكار صامتة لا تدعو الناس مباشرة إلى القتل ولكنها تخلق أجواء عدائية وتشحن النفوس بطاقة سلبية وتبث إشارات العداوة والبغضاء ضد كل مختلف فيكون العنف بعد ذلك ثمرة طبيعية، والتنبيه إلى خطورة هذه الأفكار الصامتة يأتي من كون معتنقيها يمارسون ازدواجية وتناقضا ويخفى عليهم مشاركتهم في المسئولية، فهم من جهة يتبرؤون من أحداث القتل التي تقع لكنهم من جهة أخرى لا يتفطنون إلى أن هذه الجرائم هي النتيجة الطبيعية للتعبئة التي يمارسونها.
القتل ليس سوى التجلي النهائي لثقافة الكراهية والإقصاء المتراكمة في النفوس، وكلما تضاءل حضور الرحمة والتسامح والحب في النفوس كلما كبر ذئب الكراهية واستوحش واشتد خطره.
في الأدبيات الفقهية لا يزال تقسيم الأرض إلى دار حرب ودار إسلام حاضرا، ولا يزال تصنيف الناس إلى فرقة واحدة ناجية وفرق كثيرة هالكة في النار هو التصنيف المهيمن، ورغم أن لأبي حامد الغزالي مقولة بأن أكثر الخلق مشمولون في رحمة الله يوم القيامة إلا أن عجلة الفقه طحنت استنارته الرحمانية فلم تنتصر مدرسته تاريخيا، والنظر إلى أكثر أهل الأرض بأنهم في ضلال وسعر سيستدعي بالضرورة نظرة دونية إليهم وسيزيل لا شعوريا قداسة الإنسان من وعي المتدين المتبني لهذا الفقه وعلى أقل تقدير سيجعله لا مباليا تجاه انتهاك حقه.
في الأدبيات الفقهية نجد الدعوة إلى عدم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام وإلى اضطرارهم إلى أضيق الطريق وإلى عدم تهنئتهم بأعيادهم وإلى قتل الكافر بالمؤمن وعدم قتل المؤمن بالكافر ولو كان بريئا، وهي دعوة تناقض القرآن الذي يجعل أصل العلاقة بين المسلم وغير المسلم علاقة بر وقسط: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"، فكيف سيرجى أن تساهم منظومة فقهية تؤمن بالتمييز العنصري بين البشر في صناعة السلام والتعايش؟
الدين يؤمن بالمساواة الإنسانية وكرامة كل البشر: "الذي خلقكم من نفس واحدة"، "ولقد كرمنا بني آدم"، "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، بينما مثل هذه المفاهيم الفقهية تؤمن بملة بني إسرائيل: "نحن أبناء الله وأحباؤه، وملة هتلر عن تفوق الجنس الآري.
في الأدبيات الفقهية تسود فكرة الغربة المنطلقة من سوء فهم حديث: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء"؛ والشعور بالغربة يولد الشعور العدائي بالضرورة ويعزز في النفس إحساسها بالنخبوية والاصطفاء ويؤثر على مفاهيم المودة والألفة الطبيعية داخل المجتمع فينظر إلى الناس بأنهم أعداء لا بأنهم قوم وعشيرة.
هناك سبب نفسي لا يحسن تجاهله في تغذية الميل العنفي في الإنسان وهو العجز عن التصالح مع الحياة، هذه الأزمة يغذيها الفقه التقليدي الذي يقيم بناءه على مجاهدة مفاتن الحياة والعزوف عنها ويقدم الدين كما لو أنه حرمان متواصل من مباهج الدنيا، وهو تصور يعاكس التصور القرآني الذي يقدم الإيمان بأنه حب ورضا وإقبال بهيج نحو الحياة: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"، " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"، "فلنحيينه حياة طيبة".
النظر إلى الدين بأنه حرمان من ملذات الحياة يخلق أزمة عميقة في نفس الإنسان فيعيش وقد سيطر
عليه شعور النقص والحسد الخفي مما سيولد نظرة عدائية تجاه مشاهد الحياة الصاخبة واستمتاع
الناس بها، وستلعب هذه الفكرة الخطرة في الوعي الخفي للإنسان وستشحنه بالطاقة السلبية ضد كل مظاهر الفرح والحياة، وهو ما رأيناه جليا في كثير من الحوادث الإرهابية التي تستهدف أفراح الناس واحتفالاتهم من قبل أفراد يائسين ناقمين.
من إسهامات الفقه التقليدي في تغذية مناخ العنف المبالغة في استحضار مفاهيم الحرب العالمية على الإسلام والغزو الفكري، وإفراد مساحة كبيرة من الجهد التثقيفي في تبيان ضلال العقائد الأخرى وانحراف الأفكار البشرية؛ هذه المفاهيم تنشئ جدرانا عازلة بين المؤمن وبين الناس المنوط به هدايتهم إلى الخير والرحمة وتعوق الانتشار الطبيعي للدين كقوة روحية تتسلل إلى النفوس كما يتسلل الماء في الجداول فيتلقاه الناس العطاشى دون مقاومة، لكن حين يتحول الدين إلى مادة أيديولوجية استقطابية فإن محفزات الرفض ستستثار في النفوس وستختلط صورة الدين النقية بأجواء الصراع والكراهية.
إن مواجهة هذه المفاهيم الفقهية التي تغذي شجرة العنف بات ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل، وقد أثبتت التجربة أن المداراة والمواجهة الخجولة لهذه المفاهيم المعارضة لروح القرآن ليست أكثر من تهرب من المسئولية يفاقم المشكلة ولا يحلها، وإذا آثر العقلاء المستنيرون الصمت مجاملة للجماهير وخوفا من إغضابهم فهم بذلك يخلون ميدان السباق لأصوات التطرف والغلو لمزيد من التعبئة السوداء ومزيد من المآسي والدماء.
أليس محيرا أن دعاة الغلو والتطرف لا يخجلون من المنافحة عن أفكار تدعو إلى القتل بينما دعاة التسامح والسلام خجلون من الجهر بأفكار إن أخطئوا فيها فسيكون خطأ في العفو لا خطأ في العقوبة؟
فأي الفريقين أحق بالخجل إن كنتم تعلمون!