الليبرالية مفهوم إشكالي في العالم العربي؛ فالنظم الاقتصادية والسياسية لم تتطور بالشكل الذي يسمح باستخدام المفهوم كتعبير عن حالة تفاعل اقتصادي وفكري مشتق من المرحعية الحضارية التي تنتمي لها المنطقة.
إذ إنها في الجوهر تمثل امتدادا لتطور المنظومة الرأسمالية الغربية ومرجعيتها الحضارية المستمدة من مبادئ الثورات الأوروبية وأبرزها الفرنسية؛ ضاربة جذورها إلى العقد الاجتماعي البيزنطي المقر في مؤتمر نيقية عام 325 م، مؤسسا مزيجا عرف بالحضارة الغربية المسيحية، منتهيا بمنظومة إدارية استعمارية قدمت نموذجا ممسوخا للديمقراطية ومؤسسات الدولة المعاصرة؛ حفاظا على هيمنتها على عملية صنع القرار، والتحكم في الموارد في أثناء حقبة وجودها المباشر في المستعمرات.
تشوه في مؤسسات الدولة امتد لمرحلة ما بعد الحقبة الاستعمارية، مخلقا نظما برلمانية ضعيفة، وعملية صنع قرار محتكرة من القلة؛ أمر نجد له توصيفا دقيقا ومعقولا لدى الكاتب الباكستاني الدكتور «راشد جانجو» في مقالتهWhat ails our democracy «ما الذي يمرض- تعانيه - ديموقراطيتنا»، المنشورة يوم أول أمس السبت في صحيفة الأخبار الباكستانية The News.
ليس المراد في هذا المقال مناقشة المرجعيات أو الجذور الرأسمالية الاقتصادية لليبرالية، ممثلة بـ«آدم سميث»، ومن تبعه من مفكرين؛ فالمراد مناقشة مكانة الليبراليين العرب، والمرحلة التي يمرون بها مؤخرا إن صح التعبير، بعد فترة انتعاش وطموحات بسقوف عالية أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، واندلاع الربيع العربي.
فقوة الزخم للمشاريع الليبرالية جاءت من الدعم الغربي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفييتي، لدرجة أن كثيرا من أتباع اليسار والقومية تحولوا إلى مجرد مشاريع تمويل، تماهت مع الطروحات الليبرالية في محاولة لاستكمال مشروعها باستيراد الفكر الغربي، أو في إطار صراعها للبقاء في المشهد العام.
فالليبراليون العرب إن وجدوا على وجه الحقيقة، يعانون من مازق فكري وسياسي ازداد وضوحا بعد الربيع العربي؛ فمن مرحلة الدفاع عن الديمقراطية والحرية والتعددية، وشرعية صناديق الاقتراع إلى مرحلة التشكيك بمشروعية الصناديق، وقدرتها على بلورة مشروعهم الفكري والسياسي، بل الاقتصادي؛ إلى مرحلة الانقلاب على الربيع العربي، والتحالف مع النظم المحافظة والقمعية، وانتهاء بحالة الضياع الناشئة عن المتغيرات الدولية والإقليمية، وانقلاب موازين القوى كما حدث في مصر لفترة قصيرة بارتفاع أسهم دول الخليج العربي، وتراجع أسهم القوى الغربية، ثم عودة الغرب تحت شعار الاستقرار ومحاربة الإرهاب أولا.
الانتكاسة عبر عنها من خلال تخلي القوى الغربية عن المشاريع الليبرالية لصالح النظم القمعية أو المحافظة؛ حالة مشابهة لانتكاس المشاريع اليسارية بانهيار الاتحاد السوفييتي، وانتكاس القومية بتراجع أهمية الدولة القومية الأوروبية؛ فالغرب دائم التكيف لصالح بقائه، وضمان هيمنته، وأكثر ألفة مع القوى التي تقدم ضمانات للحفاظ على الاستقرار في حده الأدنى من خلال القوة القاهرة، وفاعلية الاستجابة لمتطلبات الأمن والاستراتيجية الغربية، وهو جين استعماري كامن.
باتت مشاريع الليبراليين العرب مجرد برامج ممولة تتبناها النظم المحافظة أو القمعية على استحياء، ودون فاعلية؛ لعدم قدرتها على النفاذ إلى بنية المجتمعات العربية، محولة المشاريع الليبرالية إلى مجرد ظاهرة تتم رعايتها من قبل القوى الغربية والحاكمة، معبرة بذلك عن أزمة الليبرالية وكنهها؛ باعتبارها امتدادا واستجابة للثقافة الغربية، ولتصوراته الاقتصادية والفلسفية والقيمية ولمتطلبات أمن القوى الغربية وسياساتها وطموحاتها الاستراتيجية؛ إذ إنها لا تمثل استجابة حقيقية لمتطلبات شعوب المنطقة العربية بإيجاد نظم تحكمها العدالة والرقابة والتوازن بين السلطات.
جل ما سعى له الغرب هو إيجاد نماذج مصغرة تابعة تستجيب لمتطلباته، وتتماهى معها؛ أمر لا يقتصر على المنطقة العربية ما يمكن ملاحظته؛ فالديمقراطية نسخة معدلة لنظم الإدارة الاستعمارية التي كانت تهدف لإحكام سيطرتها، وتمكينها من إدارة الدول المستعمَرة، وضمان تبعيتها، في حين أن صنع القرار كان مرهونا بإرادة المستعمر، وليس الأجسام السياسية والبرلمانية التي أنشأها المستعمر.
أزمة الليبراليين قديمة، والعجز عن إيجاد نموذج محلي مستمد من مرجعية حضارية محلية، والعجز عن التفاعل مع الواقع أو التواصل مع تاريخ المنطقة العربية بقطع الصلة به، وربط تاريخ المنطقة بأوروبا ونهضتها ومستقبلها أوجد حالة من الشلل الفكري، والارتهان السياسي بموقف القوى الغربية، الساعية إلى تحقيق مصالحها بغض النظر عن القوى الحاكمة، أو شكل أنظمة الحكم، موسعا الفجوة بينها بين شعوب المنطقة، وقواه الاجتماعية.. وللحديث بقية.
السبيل الأردنية