"مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا" لا لا "مصر موش دولة حقيقية دي شبه دولة"، مقولتان لقائد الانقلاب العسكري في مصر عبد الفتاح السيسي، قال الأولى حين خرج على قومه في زينته العسكرية مبتهجا بدحره للتجربة الديمقراطية في احتفال مع ضباطه بمسرح الجلاء يوم 14 يوليو 2013 أي بعد 11 يوم على انقلابه، وقال الثانية بعد مرور أقل من عامين على استيلائه على كرسي الحكم، وتحديدا يوم 5 مايو الماضي، خلال إطلاق موسم حصاد القمح في منطقة الفرافرة، المقولتان تلخصان حكم السيسي الذي باع الوهم للشعب المصري من أول يوم لانقلابه العسكري، باعتبار أن ها الانقلاب سيوفر لهم المن والسلوى والعسل المصفى، وسيجعل مصر قد الدنيا، وهي جملة ركيكة لكن أذرعه الإعلامية صنعت منها حلما كبيرا للمصريين طاول السماء، قبل أن ينزل بهم السيسي على "جذور رقابهم" إلى أسفل سافلين حين صدمهم بأن مصر لم تعد قد الدنيا بل هي ليست دولة وإنما بالكاد شبه دولة.
كان السيسي يصف دولة مختلفة عن مصر التي نعرفها ويعرفها العالم، إنها مصر الانقلاب العسكري التي وصل بها السيسي إلى هذا المستوى من الفشل والفقر والديون والمهانة، بعد أن كانت دولة عزيزة كريمة عقب ثورة الحرية والكرامة في 25 يناير 2011 التي منحت مصر حكما مدنيا لأول مرة بعد ستة عقود من الحكم العسكري، وكانت مثار تقدير وانبهار العالم الحر والمتقدم، والتي فتحت آفاقا واسعة للتنمية والتطور في ظل حكم ديمقراطي، لكن خشية العسكر على إمبراطوريتهم السياسية والاقتصادية وخشية الفاسدين في مصر على أموالهم الحرام، وخشية ملوك وأمراء النفط على عروشهم، دفعتهم جميعا للتخلص من هذه التجربة قبل أن يقوى ساقها ويشتد عودها وتؤتي أكلها.
يوم الجمعة الماضي حلت الذكرى الثانية لوصول السيسي إلى قصر الاتحادية بعد عام من انقلابه العسكري، ونظمت له أذرعه الإعلامية حملات تسويق بعد إدراكها بصعوبة موقفه، مع تزايد الغضب الشعبي نتيجة الفشل المتواصل الذي أثمر ارتفاعا للأسعار وزيادة للفقر والبطالة وغيابا للخدمات، وخرج السيسي مجددا ليخاطب الراي العام عبر حوار تليفزيوني بثته القنوات والإذاعات، وليروج لإنجازات وهمية تضمنها أيضا فيلم وثائقي للرئاسة المصرية، وعرفت شعبيا باسم "الفناكيش" والتي كان ذروة سنامها فنكوش "مصر هتبقى قد الدنيا خلال سنتين" كما وعد السيسي في حديث تليفزيوني مع مذيعة سكاي نيوز زينة يازجي يوم 12 مايو 2014 .
وبعيدا عن المشروعات التقليدية التي تقوم بها عادة الوزارات والمحليات مثل الطرق والكباري والأنفاق فإن درة مشاريع السيسي التي يتفاخر بها هي تفريعة قناة السويس الجديدة، والتي تم جمع 64 مليار جنيه من جيوب المصريين لحفرها، وزعم السياسي ورجاله أنها ستدر على مصر عوائد إضافية بمليارات الدولارات، فإذ بعوائد القناة الأصلية تتراجع 210 مليون دولار خلال النصف الأول للعام المالي الجاري 2015-2016 وفقا للتقرير ربع السنوي للبنك المركزي المصري نهاية مارس الماضي)، وقد اعترف السيسي ضمنيا في حديثه الأخير بأن ما صرف على التفريعة الجديدة لم يحقق الغرض لكنه كان يستهدف رفع الروح المعنوية للمصريين!!! أي أنه سحب من ودائع المصريين 64 مليار جنيه بفوائد 12 في المئة سنويا ليرفع روحهم المعنوية!!!
وكان الوهم الثاني الذي باعه السيسي للمصريين هو المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ في مارس 2015 والذي روجت أذرعه انه سيجلب لمصر مئات المليارات من الدولارات، ومع ذلك ولد فأرا كبيرا، وبعض الوعود التي لم تتحقق حتى الآن.
أما المشروع الثالث الذي تفاخر به السيسي فهو مشروع المليون ونصف مليون فدان الذي يعد المرحلة الأولى لاستصلاح 4 ملايين فدان خلال 4 سنوات، وبعد مرور عامين احتفل السيسي باستصلاح 10 آلاف فدان فقط، والحقيقة أن جزءا كبيرا من هذه الأراضي كان مستصلحا من قبل، والأهم من ذلك من أين سيأتي بمياه الري لهذه الملايين من الأفدنة بعد بناء سد النهضة وانخفاض حصة مصر من مياه النيل بحيث لم تعد تكفي للمساحات المزروعة حاليا؟!، وبمناسبة سد النهضة فإن السيسي تجاهل الحديث عنه في أحاديثه الأخيرة بينما تتوالى التصريحات يوميا من أثيوبيا عن اكتمال بناء 70 في المئة من السد، وبدء احتجاز المياه خلفه، واقتطاع 14 مليار متر مكعب من مياه مصر بسبب هذا التخزين، وهو ما سيتسبب في تبوير آلاف بل ملايين الأفدنة في الأراضي الزراعية الحالية، وأما مشروع المليون وحدة سكنية فقد مات مبكرا بعد أن انسحبت شركة أرابتك الإماراتية من المشروع، كما أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة تاه عمدا في أدراج المكاتب الحكومية، وبالطبع لا يمكن أن ننسى جهاز الكفتة أو جهاز كشف وعلاج أمراض الإيدز والكبد الوبائي والذي تم الاحتفال به بحضور الرئيس المؤقت بعد الانقلاب عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي يوم 22 فبراير 2014.
السيسي لم يقتصر على ترويج وتسويق أوهام باعتبارها مشاريع كبرى، بل إنه سطا على مشروعات سابقة لينسبها لنفسه ومن ذلك مشروع إسكان الأسمرات في منطقة المقطم الذي يستهدف سكان العشوائيات والذي افتتحه السيسي قبل عدة أيام، وهو مشروع بدأ العمل فيه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وكذا مشروع قناطر أسيوط التي افتتحها السيسي قبل أيام أيضا بينما سبق للرئيس محمد مرسي وضع حجر أساسها في نوفمبر 2013.
لم تتحول مصر العظيمة إلى شبه دولة في عهد السيسي من فراغ بل للكثير من الكوارث الوطنية التي ارتكبها الجنرال، ومن ذلك تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية مقابل بضع مليارات لإسناد حكمه، وتنازله عن حقوق مصر في آبار غاز البحر المتوسط، وإغراق مصر في مستنقع كبير للديون يصعب الخروج منه بعد اقتراض مبلغ 25 مليار دولار من روسيا يسدد على 22 عاما بشروط مجحفة، وارتفاع الدين المحلي إلى 2.2 تريليون جنيه ليصبح أعلى مستوى في ربع قرن، وتجاوز الدين الخارجي 46 مليار دولار ليقترب من 100 في المئة من الناتج المحلي متجاوزا حدود الأمان وهي 60 في المئة فقط، ولا ننسى طبعا انهيار الجنيه مقابل الدولار في عهد السيسي من 6 جنيهات ونصف للدولار في نهاية عهد مرسي إلى حوالي 11 جنيه للدولار في عهد السيسي.
لم يشعر المواطن العادي بأي من مشاريع أو فناكيش السيسي بل قصم ظهره ارتفاع متواصل لأسعار السلع الأساسية دون زيادة في المرتبات، وتزايد مضطرد للبطالة مع إغلاق العديد من المصانع أبوابها ومع توقف النشاط السياحي خصوصا بعد حادث الطائرة الروسية.
على الصعيد الدولي ساهمت سياسات السيسي في تقزيم مصر دوليا فلأول مرة في التاريخ تصوت مصر لصالح حصول الكيان الصهيوني على عضوية في لجنة الاستخدامات السلمية الدولية للفضاء الخارجي، وسبق ذلك وتلاه تحسين مضطرد للعلاقات مع هذا الكيان وصولا إلى دعوة السيسي للسلام الدافئ مع إحكام حصاره على غزة، ومن دعم جزار سوريا بشار الأسد إلى دعم اللواء المتقاعد المتمرد في ليبيا خليفة حفتر، ومحمد دحلان، ظهر جليا غل السيسي ضد ثورات الربيع العربي ومساعيه لقمعها جميعا.
سخر إعلام الثورة المضادة كثيرا من الرئيس مرسي من قبل، وكان يحمله المسئولية عن أي كارثة طبيعية، ومع ذلك تزايدت هذه الكوارث في عهد السيسي دون رد مماثل، ومن ذلك سقوط الطائرة الروسية ومقتل 217 راكبا، وتحطم طائرة مصر للطيران القادمة من فرنسا ومقتل 66 شخصا، وغرق مركب الوراق ومصرع 38 مواطنا، وتفحم حافلة مدرسية ومصرع 18 طالبا بها الخ.
على صعيد الحريات حدث ولا حرج فمن قوانين بالجملة أصدرها السيسي في غيبة البرلمان(341 قانونا)، إلى مئات الأحكام بالإعدامات لتتصدر مصر المركز الأول عالميا في ذلك إلى زيادة عدد السجون إلى 45 سجنا، إلى قمع متواصل لحرية الراي والتعبير، وإغلاق الصحف والقنوات والبرامج وحبس الصحفيين وأخيرا اقتحام نقابتهم وجرجرة نقيبهم وعضوين بمجلس نقابتهم لمحاكمة عاجلة، وتهديد بفرض الحراسة على النقابة، فيما يتواصل إغداق الأموال على رجال الجيش والشرطة والقضاة الداعمين للنظام.
بهذه الكوارث والفواجع، تحولت مصر من دولة رائدة واعدة إلى شبه دولة يحكمها "شبه سيسي" يريد لشعبها أن يكون "شبه مواطنين"، لكنه لن يستطيع، وله في أسلافه عبرة، فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة.