قضايا وآراء

القيادة .. الفريضة المغيبة

1300x600
حدثني عن فريضة غابت مثلما غابت فريضة الجهاد في سبيل الله بكل أشكالها وألوانها ودرجاتها، بدءا من جهاد النفس حتى قتال العدو، مرورا بالرباط ولو ساعة في سبيل الله. حدثني عن أمة كان أعداؤها يعملون لها ألف حساب وحساب قبل أن يفكروا مجرد تفكير في إغضابها ولو مجرد غضب عابر، وهي اليوم أمة رضخت وركعت لكل من رفع في وجهها سلاحه ولو كان سلاحه من ورق، ومقاتليه أحرص الناس على حياة.

غاب الجهاد ورفع ذكره من الكتب والمراجع، وإن بقي على استحياء بين دفتي المصحف لا يجرؤ قارئ على تلاوته في حضور زعيم من هنا أو رئيس من هناك، لأن قادة العرب اليوم باتوا مثل معظم شعوبهم يخجلون من ذكر آيات الجهاد أو القتال الذي كتب علينا وهو كره لنا.

في رأيي أن السر وراء غياب فريضة الجهاد هو غياب القيادة وهي الفريضة المغيبة في عالمنا العربي منذ عقود، بينما هي حاضرة وبقوة في العالم الغربي. يمكنك أن تقارن بين زعماء العرب وبين زعماء أمريكا منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم.

من جورج بوش الأب الذي غزانا بجيوشه في أعقاب حرب تحرير الكويت ولم يكمل مهمته في غزو العراق فترك وصيته لابنه جورج بوش الابن ليكمل المهمة فيحتل بجيوشه أفغانستان والعراق، بينما لم تستدعه دول الخليج العربي ليقوم بمهمة تحرير جزر الإمارات المعروفة طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، ولو طالبوه فما كان ليفعل لأنه جاء لمهمة محددة وهي القضاء على حضارة العراق التي امتدت لقرون قبل أن يظهر إلى الوجود العلم الأمريكي.

 ومن قبل ذلك بعقد أو يزيد من الزمان، وتحديدا في الثمانينيات، قرر دونالد ريغان القضاء على الشيوعية في عقر دارها، ووعد بتفكيك الاتحاد السوفيتي وبدء حربه على أفغانستان، واستدعى جيوش العرب ومجاهديهم إلى أفغانستان ليضرب الاتحاد السوفيتي ويخرجه ذليلا، ثم حرك ريغان إعلامه في أوربا الشرقية، واستطاع تحرير معظمها من قبضة الشيوعية ما عجل بتفكك الاتحاد السوفيتي.

كان العرب هم العون والسند، ولم يقل أحد ساعتها إن هذا احتلال أو اعتداء أو بربرية، اليوم تأتينا كل جيوش الغرب لتقتل الأبرياء وتهلك الحرث والنسل بحجة القضاء على الإرهاب، ولم يخرج من بين ظهرانينا حاكم يقول لهم متى نتحرك سويا لتحرير فلسطين آخر البلاد المحتلة في العصر الحديث.  

كل دول العالم من شرقه إلى غربه جاءت إلى سوريا لتحارب تارة مع بشار، وتارة ضد "داعش"، وتارة أخرى ضد المدنيين، ولم يخرج حاكم عربي واحد ممن أطلقوا طائراتهم وطياريهم الرجال والنساء لضرب السوريين ليقول لطياريه اضربوا الصهاينة في الجولان ولو على سبيل الخطأ، لم يفعلوا ولن يفعلوا.

غاب الجهاد حين غابت القيادة، فلا جهاد بدون قيادة، ولا حضارة بدون قيادة، ولا ثورات بدون قيادة، ولا دول بدون قيادة، والسؤال الذي يلح علي منذ بواكير شبابي لماذا غابت القيادة؟ والحقيقة، وأنا هنا أعترف بأنني كنت أجهل أنها غيبت بفعل فاعل. كنت أظن أن بمقدور الأمة أن تنتج قادة كثر في كافة التخصصات والميادين، ولكنني أدركت، وربما متأخرا، أن هذه الأمة بثقافتها التي زرعت من خلال حكامها كانت تصور القيادة على أنها مرادف للتهور والحماس الزائد، وأنها نقيض الحكمة والتعقل والتدبر.

الثقافة التي زرعت الشك في النفوس من كل شخصية تبدو عليها ملامح القيادة، كل شخصية تظهر على تصرفاتها سمات القيادة اعتبرت خطرا محدقا وبلاء متوقعا على الناس وعلى المؤسسات وعلى الدول.
 
زرع في عقولنا أن الصمت تجاه العدوان الصهيوني المتكرر على فلسطين ولبنان، وقصف المفاعل النووي العراقي في نهاية السبعينيات هو الحكمة بعينها، وأن السادات ومبارك من بعده كانوا حكماء حين لم يسمحوا للعدو الصهيوني بالتحلل من معاهدة كامب ديفيد، وأن هذه المعاهدة هي الفرخة التي تبيض ذهبا للمصريين لأنها تقدم لهم عدة مليارات سنويا على شكل مساعدات أو مكافآت سمها ما شئت.
 
لا يختلف زعماء الأحزاب والجماعات الإسلامية عن زعماء الدول ورؤسائها فكلاهما ينظر إلى أصحاب الرأي على أنهم أعداء محتملون يمكن أن يهددوا عروشهم اليوم أو غدا، لذا فكما مكث مبارك ثلاثين عاما مكثت قيادات الجماعات الإسلامية في مكانها اللهم إلا واحدا منهم رفض وأصر على الخروج حيا من موقعه وهو الأستاذ المجاهد الكبير محمد مهدي عاكف، وربما يسجل التاريخ أنه خرج بهذه الطريقة حتى لا يحرج من أرادوا إخراجه لأنه مختلف عنهم قبل أن يكون مختلفا معهم.

أليست مفارقة أن الذين يطالبون أتباعهم بالخروج على الحكام المستبدين هم أكثر المتمسكين بالبقاء في سلطة إدارة الأحزاب والجماعات، هل هؤلاء يريدون صنع قيادات جديدة؟ أم إنهم يحفرون لأي قيادة تطل برأسها قبرها فورا، ويعجلون بدفنها، ثم يقفون على قبرها باكين رحيلها قبل الأوان؟

إذا أرادت الأمة أن تخرج من كبوتها وتكون في المقدمة، فعليها بالتفكير في استراتيجية لصناعة القادة، وفي اللحظة التي تظهر قيادة حقيقية سوف تنسحب تلقائيا وبدون قتال كل قوى الشر التي تكالبت علينا بعد أن ضمنت أنه ليس في بلادنا قيادة حقيقية.

القيادة هي كلمة السر، وهي الفريضة المغيبة التي يجب إعادتها إلى الواقع وإعادة تشغيلها من محركات الشباب التي عطلتها رموز وأسماء لا زالت تعيش وهم أنها قيادات والحقيقة أنها لا قيادات ولا يحزنون.

قررت منذ وقت ألا أسمح لنفسي بأن أسمع من أحدهم حديثا عن الثورة أو الجهاد أو التغيير قبل أن يترك موقعه راضيا أو مجبرا، معلنا اعتذاره عما اقترفته يداه بحق الأمة كل الأمة.