معركة الرقة تُمدِّد عمر النظام السوري، ولا تُحسَم ببضعة أسابيع. أغلب الظن أن معظم الأثمان سيدفعها المغلوبون على أمرهم، المحاصَرون بين ظلم النظام وجنون «داعش».
معركة الفلوجة تمدِّد لحكومة حيدر العبادي فترة السماح للمضي في الإصلاحات التي تقاومها القوى الحليفة لإيران، بالدرجة الأولى.
تصر إيران على «المساعدات الاستشارية» التي تقدِّمها لدمشق وبغداد. لنظام دمشق «المظلوم» في مواجهة «الإرهاب» والشعب الظالم(!)... لا الشعب ولا الضحايا في حسابات الخطاب الإيراني، أو في بيانات الكرملين ووزارة الدفاع الروسية، التي لا تعترف بسقوط مدنيين أبرياء قتلى بعد غارات طائراتها.
تبخَّر مسار جنيف الذي أوحت واشنطن بممارستها ضغوطا على موسكو؛ لدفعه، وإنهاء نكبات السوريين في الداخل والخارج، وأوحى الكرملين بأنه ينأى عن نظام بشار الأسد من أجل تسريع تسوية. تبخُّر كل الرهانات على تقاطع مصالح أميركية- روسية قد يبرِّد الجحيم السوري، فلا موسكو مهتمة بمصير السلام والمرحلة الانتقالية، ولا أحلام باراك أوباما تتجاوز المبارزة مع «داعش»، وتحقيق انتصارات على التنظيم، لتجييرها إلى الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون.
في بازار المبارزة، يتبارى القيصر والبيت الأبيض في إحصاء قتلى «داعش»، يتوارى الحديث عن لوائح «الفصائل الإرهابية» بين المقاتلين المعارضين، الجميع في كفة واحدة لتغليب كفة النظام، والضحايا المدنيون مجرد أرقام ترتفع.
وبين مسار جنيف وطموحات فلاديمير بوتين وأوباما، لـ«المستشار» الإيراني أن يفعل ما يشاء، دفاعا عن «المظلوم» الذي لا يكون إلا نظام الأسد!
واضح أن إيران تسلّم بكذب تفتعله لتبرير سياساتها، فيما واشنطن التي ارتضت تسليم العراق إلى «الحرس الثوري» تصمت إزاء دوره في سورية، خصوصا فتح فصول جديدة من المجازر.
والأكيد أن الأصابع الإيرانية تبدي مقاومة شديدة لأي جهد يُبذل من أجل تسويات تخمِد الحرائق الكبرى في المنطقة، بدءا بسورية مرورا بالعراق، وانتهاء باليمن. فلا قطار الكويت يتحرّك إلى حل متوازن وقرارات للحوثيين تعترف بالشرعية، ولا قطار جنيف يقلع إلا محمّلا بمزيد من جثث السوريين، بدلا من المفاوضين.
فلنستمع إلى أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني يبرر مجددا دعم طهران «محور المقاومة» في مواجهة «محاولات الأعداء لإسقاط دمشق وبغداد». وبعدما «فشل الاستكبار العالمي في تحقيق أهدافه عبر احتلال البلدان، مثل العراق وأفغانستان»، لا دور لإيران فيهما إلا «لدعم الاستقرار»، بدليل ما نراه من ازدهار واستقرار في بلاد الرافدين.
مساندة إيران «المقاومة»، يقول شمخاني تنطلق من مبادئ الثورة والدين، «فالوقوف إلى جانب الحق واجب شرعي، ومساندة المظلوم وظيفة دينية وأخلاقية يجب القيام بها، مهما كان الثمن». هكذا يُبَرَّر عدم تخلي طهران عن دعم النظام السوري باعتباره «وظيفة دينية» أيضا، ولو كان الثمن ربما إبادة نصف الشعب المنكوب. ألا يقاوم هذا النظام «التكفيريين والإرهاب»؟ تضليل يدمج السياسة والأطماع بالعقائد، ولأن حقبة الظلام طويلة، لا يضير «الجمهورية الإسلامية» في محاولاتها لصرف الأنظار عن أهدافها البعيدة في سورية، ألّا تهدّئ مع السعودية، وأن تواصل تحريض الحوثيين على إهدار الوقت في مشاورات الكويت، وتحريض المعارضة في البحرين، بانتظار مرحلة «إنهاك الخصوم»، وفرض دور إيراني في التسويات.
لا يضيرها أيضا أن يطغى على وقائع المجزرة الرهيبة في سورية، التصعيد الروسي ضد تركيا، بعدما لوّح بوتين بالحرب معها، وهو «يأمل بتفاديها». من مصلحة طهران أن يتدخّل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فجأة ضد الدور التركي في العراق، خصوصا في الشمال لئلا يخطف من وهج قاسم سليماني ودوره «الاستشاري».
وإذا كان واضحا أن فترة عصيبة تنتظر الدور الإقليمي لتركيا، في ظل أزمة ثقة بين أنقرة وواشنطن التي تدعم أكراد سورية، في المقابل لا يمكن الاتكاء على «اعتراف» هاشمي رفسنجاني بصعوبة استمرار التورُّط الإيراني في سورية والعراق ولبنان وأفغانستان، ولا اعترافه بخلافات بين أجنحة السلطة في طهران. فمنذ عهد محمود أحمدي نجاد، استُخدِم الترويج لخلافات الداخل أداة للتغطية على أدوار «خفية» في الخارج، ولإسكات أي صوت يشكّك بـ«حكمة» القائد المرشد.
على مدى عشرات السنين، كان للعرب حيّز للمناورة تحت سقف صراع القطبين ثم الحرب الباردة... في حقبة المجازر، أكثر من سقف للتفاهمات الأميركية - الروسية، وأكثر من حلبة للتواطؤ الإيراني.
عن صحيفة الحياة اللندنية