انقلاب 7 نوفمبر ووضعية ما دون المواطنة(2)
جاء الجنرال زين العابدين بن علي سنة 1987 على ظهر دبابة "الداخلية" ، وهو معطى يجعلنا منذ البدء مطالبين بألاّ نغفل عن التداخل بين الأصل العسكري والوظيفة الأمنية لصاحب انقلاب السابع من نوفمبر. ولكنّ بن علي قدّم نفسه باعتباره وارث وظيفة الحكم ومرجع المعنى بالنسبة لكل التونسيين، خاصة إبّان السنة الأولى من حكمه-أي قبل الخضوع لإغراء وراثة الزعيم في ثالوثه التأسيسي:الوطن-الحزب-الزعيم-.
يتفق أغلب الدارسين على أنه لم يكن لبن علي كاريزما الزعيم بورقيبة ولا مشروعيته النضالية ولا عمقه الفكري، ولكن بن علي كان وريث نظام "هرمي" لا يستطيع الاشتغال إلا بوجود رأس "مفردة"، يكون الحزب هو أداتها الدعائية و التنظيمية، أمّا الأجهزة الأمنية فتكون هي أداته "المُثلى" لإدارة الاختلاف السياسي إذا ما بلغ مرحلة لا يمكن التسامح معها -مثل التشكيك في شرعية قائد النظام أو كفاءته أو وطنيته-.
لأسباب معروفة عند مؤرّخينا، وجد بن علي نفسه بعد عامين من حكمه في مواجهة مفتوحة مع الاتجاه الإسلامي، الذي توجّس منه خيفة بعد التجربة الانتخابية"الوحيدة" التي أرادها أن تكون معبّرة عن توجهاته الديمقراطية" المعلنة". وبصرف النظر عن "الأسباب"الحقيقية التي أدّت إلى تلك المواجهة، فإنّها قد وضعت التونسي أمام تجربة غير مسبوقة في مواجهة السلطة: تمّ إضافة مفهوم "ما دون المواطنة" إلى مفهوم" المواطنة المشروطة" البورقيبي. ذلك أنّ العلاقة بالنظام أو بالسلطة لم تعد علاقة "فردية" من جهة الواجبات والمسؤوليات الأخلاقية و"الجزائية" - رغم ثبات انعدام المسؤولية الجماعية من الناحية القانونية بالنسبة للكثير من ضحايا القمع النوفمبري-، ذلك أنّ بن علي –مستعينا بأداتي التنظيم و التعبئة (التجمّع)، و بأداتي"المراقبة والعقاب"-على حدّ عبارة ميشيل فوكو- (الداخلية و العدل)-، قد عمل على أن يواصل سياسة بورقيبة في استخدام منطق "الرضّة" أو الصدمة، لكن في غير ما وظّفه فيه "الزعيم".
لقد عمل بورقيبة –مثل كل النماذج التحديثية الأتاتوركية- على إحداث "قطائع" بنيوية عميقة من غير تقدير لمدى "قابلية" الأبنية الذهنية والموضوعية لتلك القطائع . فالصدمة (إضافة إلى هيمنة الدولة الوطنية على الحياة العامة في مختلف تفصيلاتها، وسيطرتها الكلّية على مجالها الجغرا-سياسي )، كانت تمنع "موضوع" التحديث-أي الشخص الذي يُفترض فيه أن يكون"مواطنا"، أي الذات الفاعلة في عملية التحديث إراديا- من تدبّر ما يُسلّط عليه من سياسات فوقية، وكان عاجزا عن توفير بدائل "واقعية"، أو جماعية ممكنة لمواجهة الفعل السلطوي الذي ينبغي القبول به، وإظهار ذلك في تعبيرات احتفالية أو سلوكيات ولائية دورية، حتى لا يكون الفرد محل شبهة.
كان كل انهيار في هذا البناء"المثالي" أو انزياح عن منطقه يعني سحبا لحقوق المواطنة أو "الهبات" المادية و الرمزية التي كان الزعيم يوزّعها بالسويّة بين أبنائه -رغم أنه في الحقيقة لم يتجاوز فيها سلطة الجهة أو الحزب اللذين ظلاّ رغم كل شيء من أهم العوائق"البنيوية"في سبيل تأسيس دولة وطنية"حديثة"-. أمّا بن علي فلم يستعمل منطق"الصدمة" إلاّ في إطار سياسة قمعية أساسها "فردية الجرم و جماعية العقوبة"، أو الأخذ بالظنّ قبل ثبوت التهمة، أو سياسة "التجويع" بمنع كل المتورطين في المعارضة وعائلاتهم -بل حتى المشتبه فيهم بالتعاطف معهم- من التمتّع بأبسط حقوق المواطنة.
كان معارض بن علي (أو المشتبه في معارضته) يُمثّل التجسيد الحيّ لإبليس الذي لم يُنظره ربُّه، أو هو المرادف الحديث للسامريّ الذي لا أمل له في أن يمسّ "العالم" أو يسكنه إلا بما هو ذكرى أو موضوع رغبة مستحيلة. ولو استعملنا اللغة الفلسفية لقلنا إن المعارض –عندما يكون إسلاميا- هو "الشرّ المطلق" الذي يقابل "خيرية "النظام المطلقة. ولم يكن بن علي لينجح في استهداف معارضيه من الإسلاميين خاصّة (وبعض الفئات اليسارية الوطنية مثل قيادة حزب العمال أو الرابطة و القليل من رموز المجتمع المدني)،إلاّ بعد أن استطاع أن يجعل من التجمّع والداخلية موئلا للعديد من "الكفاءات" التي لم يكن الجامع بين أغلب مكوّناتها إلا عداؤها للإسلام، بما هو نسق قيمي ومنظومة سلوكية قبل أن يكون حزبا سياسيا -بصرف النظر عن الدوافع الشخصية التي تحكم مناصري النظام؛ من مثل الرغبة في التدرج الاجتماعي أو التمتّع بالرّساميل المادية والرمزية التي كان "صانع التغيير" يُشرف على توزيعها عبر أجهزته الحزبية والأمنية-.
صارت الحياة بالنسبة للعديد من الإسلاميين والإسلاميات في هذا السياق المتأزم، ضربا من الحلم بوضعية "الدرجة الصفر في المواطنة"، أي تلك الدرجة التي لا يحسّ فيها الإنسان في ضعفه و"هوانه على النظام" والنخبة المتواطئة معه بإمكان "الارتفاع" إلى الحدّ الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية . أمّا الحقوق السياسية فقد أصبحت بالنسبة لعموم الشعب الخاضع لآثار الصدمة ضربا من "الترف"، أو الخطر الذي تأتي معاناة الإسلاميين"خاصّة" و بعض الوطنيين من العلمانيين اليساريين والقوميين وبعض الشخصيات الوطنية المشتغلة في المجتمع المدني، لتذكيرهم بثمنه الباهض وغير العقلاني بالنسبة لأغلبية الناس.
بعد تخلّصه من الإسلاميين، جعل بن علي "الدولة" التونسية ومؤسساتها مجرّد ملحق بالقصر الرئاسي. وهو ملحق لا وظيفة له إلا السهر على "المواطنين النموذجيين" الذين لا وظيفة"رسمية" لهم داخل أجهزة الحكم رغم أنهم هم من يُسيّرها من مكان خفّي (وهم أساسا بعض العائلات القريبة من الرئيس او المصاهرة له أو المتمتعة بهباته بفضل شبكات الرعاية المتبادلة بين النخب البرجوازية ذات الوعي المافيوزي). كانت تونس تشهد إحياء للمكبوت الجهوي وتغذية للتضامنات العائلية التقليدية من جهة أولى عبر ربط فرعي العائلة الحاكمة أي الطرابلسية و آل بن علي بأهم العائلات المتنفذة في تونس ماديا، أو بوجاهتها التاريخية-مثل عائلة الماطري البلدية اليوسفية-، ومن وجهة ثانية عبر تحويل الاقتصاد التونسي التابع للمركز الغربي إلى سوق"توكيلات" أو خدمات أو صناعات، لا وظيفة لها إلا زيادة التفاوت الجهوي والطبقي بين مكونات المجتمع التونسي.
صار "المواطن النموذجي"(المنتمي للعائلة المالكة أو الدائر في فلك مصالحها ومصاهراتها البراغماتية) هو مرجع تحديد المواطنة ومعيارها: تكون مواطنا بقدر ما تستطيع الاقتراب من مركز الدائرة عبر المال أو المصاهرة أو القرابة أو الجهة أو التميّز في الخدمة. وتسقط عنك حقوق المواطنة- حتى إن كنت ثريا أو من الوزراء أو من كبار الموظّفين الأمنيين أو الحزبيين- كلّما عارضت مصالح "نواة" العائلة والدوائر القريبة منها، (أي كلما هددت مصالح المركز الغربي بطريقة حقيقية). لقد أصبحت العائلة الحاكمة هي "النظام" الفعلي في تونس وليس مجرّد سلطة موازية. بل يمكننا القول إنّ السلطة بمختلف مستوياتها لم تكن إلا "خادما" أو وكيلا "قانونيا" لمصالح "العائلة" وزعيمها"صانع الصناديق" التنموية والإنسانية الكاذبة.
لقد استطاعت الآلة الدعائية الضخمة لبن علي –بالتواطؤ مع الصمت الغربي والإقليمي- أن تجعل الاستحقاق السياسي في المواطنة متأخّرا بالرتبة والأهمية عن استحقاقين آخرين هما: الاستحقاق الأمني( بلد الأمن والأمان) والاستحقاق الاقتصادي ( أسطورة "المعجزة الاقتصادية التونسية")، وذلك من خلال التلاعب بمعدّلات الجريمة أو معدلات انتهاك حقوق الإنسان من جهة أولى، ومعدلات التنمية والإحصائيات أو الشهادات الوطنية والدولية التي أفلتت من سلطة رشاوى "وكالة الاتّصال الخارجي" من جهة ثانية. وشاركت العديد من النخب –بمستويات متفاوتة –في تكريس هذه الوضعية "المتأزّمة" وذلك إما بالتواطؤ الصريح، أو بتقليص هامش المعارضة إلى حدوده "المطلبية" الدنيا. وهو ما يجعل من الفرضية التالية، فرضية تحليلية "عقلانية": كان النظام على عهد المخلوع غير قادر على الاشتغال إلاّ بهامش معارضة" مطلبية"، هي في حقيقتها "الوظيفية" جزء بنيوي من آليات اشتغال النظام ذاته، رغم "وهمها الذاتي" في أنها تمثّل خارجه أو نقيضه الموضوعي.
لم تكن المعارضة"القانونية"-وهي حصريا معارضة علمانية بعد أن تخلّص النظام من الإسلاميين بعد محرقة التسعينيات من القرن الماضي- إلاّ هامش النظام أو "الطابور الخامس" للبدائل المقبولة لديه من أجل تغيير الأجزاء غير الوظيفية من واجهاته السياسية والثقافية والأكاديمية والإعلامية والنقابية. فقد كانت"الأرضية العلمانية اليعقوبية" قادرة على تذويب الاختلافات الإيديولوجية وتدجينها، في كل مرة يضطرّ النظام إلى تغذية صفوفه أو أطروحاته بالاعتماد على "شريكه" القانوني في المجال السياسي، بل بالاعتماد حتى على المستقلين "الحداثيين" الذين كان أغلبهم يرون في نظام بن علي "أهون الشرين" إذا ما قورن بـ"البعبع" الإسلامي الذي كان يُهدد "النمط المجتمعي"، عبر حركة النهضة وغيرها من حركات الإسلام السياسي.
ورث انقلاب 7 نوفمبر -المفتقد لشرعية بورقيبة النضالية وسلطته الكاريزمية- وضعية "المواطنة المشروطة" التي هيمنت على فترة حكم الزعيم بورقيبة، ولكنه عوض تعديلها وتصحيح اختلالاتها قام بتعميقها من خلال مقاربته الأمنية ومنطقه السياسي الكلياني، بحيث وجدنا أنفسنا أمام وضعية أشد بؤسا هي وضعية "ما دون المواطنة"، تلك الوضعية التي كانت "فضيحة" أخلاقية وتاريخية لا يستطيع أيّ عقل "حداثي" تبريرها مهما حاول، -كما لا تستطيع الكثير من النخب التي احتلّت المشهد العام بعد 14 جانفي نفي تواطئها فيها إمّا بالصمت أو بالمشاركة-. ولا يعني ذلك نفي المسؤولية "السياسية" للقيادة السياسية لحركة النهضة عن تلك الأحداث، بل يعني فقط أنّ إدارة الصراع السياسي بين الإسلاميين والنظام تمّت بعقلية "استئصالية" كليانية لا علاقة لها بالديمقراطية الشعبية (التقدمية)، ولا بالديمقراطية التمثيلية البرجوازية (الليبرالية أو الوسطية كما يحلو لأصحابها أن يُسمّوا أنفسهم)، كما أنها لم تكن تعكس أيّا من "القيم الكونية" أو أيّ مبدأ من مبادئ المنظومة العالمية لحقوق الإنسان.
لو أردنا أن نجد "تبريرا" واحدا لتحالف بعض التقدميين مع نظام المخلوع، لقلنا إنه كان بالنسبة إليهم البديل "المحتمل"رغم مساوئه عن "الخطر" الإسلامي الذي يحمل مشروعا هو بالنسبة إليهم تعبير جليّ عن وضعية" ما قبل المواطنة"، أي عن تلك الوضعية التي سيرتدّ الاجتماع المدني فيها إلى تحديدات "فقهية" وشرعية تنقلب على كل مكاسب العقل السياسي الحداثي، وأساسها "الحرّية الشخصية" وحقوق المرأة وغيرها من الحقوق الأساسية للمواطن، –باعتبار مواطن مقولة تتجاوز مقولة "المسلم" في الفقه السياسي التقليدي-.فكيف سيطرح الفاعلون الجماعيون قضية المواطنة بعد 14 جانفي 2011، وهل ساعدت الثورة التونسية النخب على طرح نماذج مواطنية جديدة، أم إنهم ظلوا أسرى النموذجين السابقين، دون أن أية قدرة على تجاوزهما تجاوزا مفهوميا ومؤسساتيا؟