ما أكثر ما كتب عن الأسباب التي قادت شباب الأمة العربية إلى تفجير الحراكات الجماهيرية الكبرى في ساحات وشوارع العديد من أقطار الوطن العربي إبّان فترة السنوات الخمس الماضية.
من بين تلك الأسباب ذكرت مثالب وممارسات الدولة الوطنية العربية الخاطئة بحق الشباب، الفراغ المجتمعي السياسي بسبب ضعف الأحزاب والنقابات في وجه سلطات حكم الدولة، وتدخلات ومؤامرات بعض قوى الخارج العربي. ولذا فالحراكات كانت ظاهرة طبيعية، وما حققه الشباب والشابات أصبح مادة قصائد وأغاني مديح وإعجاب وإكبار.
لكن ما إن واجهت الحراكات الجماهيرية المبهرة المصاعب، وانتكس بعضها لأسباب موضوعية، حتى زاغت أبصار المعجبين والمادحين عن موضوع الشباب وما أبدعوه، وبالتالي عن الإمكانات المختزنة فيهم، ليصبح موضوع الشباب مختصراً في بعض خطوات تقوم بها الدولة لتحسين أحوال معيشتهم.
يكفي أن تقوم الدولة بتحسين فرص الشباب في الحصول على الوظائف، وفي تمثيلهم في المجالس بنسب معقولة، وفي تيسير التحاقهم بالجامعات ..إلخ. من خطوات مماثلة، حتى يتوقف الشباب عن الاستمرار في ما بدأوه.
غير أن تلك النظرة المبسطة تطرح سؤالين: الأول يتعلق بما طرحه الشباب من شعارات. فهل تلك الخطوات كافية لتكون استجابة مقبولة لشعارات الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية التي صرخت بها حناجر الملايين؟ والثاني يتعلق بطبيعة سلطة الدولة العربية.
فإذا كانت أغلبية سلطات الحكم قد فشلت في بناء تنمية إنسانية شاملة، بما في ذلك بناء نظام ديمقراطي يقوم على أسس المواطنة المتساوية في الحقوق والفرص، وبناء نظام اقتصادي إنتاجي ريعي بدائي، بسبب انتشار الفساد والمحسوبية والزبونية والولاءات الفرعية، سواء المذهبية، أو القبلية، أو الحزبية، أو الطبقية، فهل يمكن الاعتماد على هكذا أنظمة حكم للقيام بخطوات تراكمية معقولة لتحسين فرص الشباب وتمكينهم في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع؟
بل إن الأمر أكبر وأخطر من ذلك. فالشباب هم جزء من تكوين المجتمعات العربية. فإذا كانت الدولة العربية قد مارست ابتلاع مجتمعاتها في جوفها منذ إنشائها ومارست، سواء بقصد أو من دون قصد، الهيمنة شبه الكاملة على نشاطات تلك المجتمعات، وبالتالي ساهمت في جعلها مجتمعات عاجزة ولامبالية، ومعتمدة على ما يلقى لها من فتات الدولة الريعيّة فما الذي سيجعل تلك الدولة تخرج عن عادتها السابقة وتولي اهتماماً خاصاً متميزاً للشباب؟ والشباب فقط؟ وما الذي سيجعل مؤسسات المجتمع المدني، المغلوبة على أمرها، والمسجونة في جوف الدولة، قادرة هي الأخرى على مساعدة الشباب والوقوف معهم للحصول على حقوقهم؟
نحن، إذاً، أمام دول مبتلاة بشتى العلل، وأمام مجتمع مدني ضعيف ممزق عاجز. إنه استنتاج مؤلم، ولكنه متجذر في الواقع العربي. أضف إلى ذلك أن الخارج لن يتدخل إلا لخدمة مصالحه، ويجب ألا يقحم في حل مشكلات مجتمعاتنا.
إذاً، من سيمكن الشباب ويحسن فرصه الحياتية ويخرجه من جحيم المشكلات الكثيرة التي يواجهها في حقول التعليم والصحة والعمل والمسكن والسياسة وغيرها؟
آن الأوان أن يواجه الشباب العربي الجواب عن هذا السؤال، فلا يضيع في متاهات الاعتماد على هذه
الجهة الفاسدة أو تلك الجهة العاجزة، ولا يدخل في غيبوبة أحلام اليقظة.
فالجواب، كما علّمنا تاريخ البشرية في كل المجتمعات وعبر كل العصور، سيكون: الشباب أنفسهم، بلحمهم ودمهم، بقوة إرادتهم، بتنظيم صفوفهم، بالالتزام التام بقضايا مجتمعاتهم، بما في ذلك قضاياهم الخاصة بهم، أي من خلال العمل السياسي المدني النضالي السلمي التراكمي، غير المتقطّع.
ولنضف إلى ذلك تحذيرا مهما: وهو أن النضال من خلال شبكات ووسائل التواصل الإلكتروني الاجتماعي يمكن أن يكون مساعداً لذلك العمل السياسي المؤسسي المنظم، ولكنه لن يكون بديلاً عنه. هذا أمر يجب أن يتجذّر في قلب وعقل وروح شباب الأمة العربية. فالعمل السياسي التاريخي سيحتاج إلى أكثر من "تويتر" و"فيس بوك" وأخواتهما.
(عن صحيفة الخليج القطرية)