رحل الشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد، وشيعته النخبة التونسية بمختلف مكوناتها في جنازة ضخمة تليق بمثقف غادر مسقط رأسه "سيدي بوزيد" ليصبح رمزا من رموز الثقافة في هذا البلد الذي لا يزال يثير اهتمام العالم بثورته التي أطاحت بمستبد رفض أن يغادر الحكم في اللحظة المناسبة.
تعتبر الحركة اليسارية أن الراحل هو شاعرها بامتياز، رغم أنه كان ناقدا لتراثها وللكثير من مفاهيمها وموقفها ومقولاتها، ولهذا أحاطت به وهو جثة، وقام عدد من رموزها بتأبينه على طريقتهم. وهذا أمر مشروع في عالم الأحزاب والتيارات الأيديولوجية، وإن كان "ولاد أحمد" ليس ماركسيا ولا لينينا، وإنما هو شاعر إنساني منحاز للحرية وللفقراء. كما أنه كان شديد الغضب من كل من يحاول احتكار الحقيقة الإلهية، أو يتحدث باسم الرب ويحول الإسلام إلى صندوق محتكر ومغلق في وجه الآخرين. يقول في هذا الشأن وهو غاضب يريد أن يجرد خصومه من كل سلاح يوجهونه ضده:
قد عقروا ناقتي وأباحوا دمي
في بيوت أذنت بأن لا يراق دم فوق سجادها
.......................
إلهي لقد تم بيع التذاكر للآخرة
ولم أجد المال والوقت والعذر كي أقتني تذكرة
فمزق تذاكرهم يا إلهي ليسعد قلبي
ألم تعد الناس بالمغفرة
كانت إيقاعات الجنازة عادية، لكن البعض من أبناء اليسار الراديكالي، لم يكتفوا بذلك، وإنما قرروا طرد "الغرباء" من المقبرة، حيث رفعوا شعار "ارحلوا" في وجه قياديين من حركة النهضة كانا من ضمن المشيعين للفقيد. لقد بدا لهذه المجموعة الصغيرة أن حضور إسلاميين في هذا الموكب لا يجوز من وجهة نظر "الثوريين" الذين بطبعهم "يحتكرون الحقيقة الثورية ولا يسمحون لأي رجعي أن يقترب من مملكتهم وحتى من أمواتهم".
كان هذا الشاعر المتمرد من أكثر الشعراء الذين هاجموا بشراسة عموم الإسلاميين، وبالأخص أنصار حركة النهضة منذ الثمانينات. وقد اختلف معهم كثيرا، وكم كان عرضة لانتقاداتهم وحملاتهم السياسية عبر مواقعهم الافتراضية، لكنه للحقيقة والتاريخ لم يبرر القمع الذي سلط عليهم، ولم يؤيد سياسة الاستئصال التي انتهجها نظام بن علي، والتي لقيت دعما وتشجيعا من بعض الأطراف السياسية. لقد كانت خصومته مع الإسلاميين خصومة شريفة. وعندما أصيب بمرض السرطان وبدت عليه مؤشرات النهاية، شكلت حركة النهضة وفدا قام بزيارته بالمستشفى حين كان يعالج. وقد شكلت تلك الزيارة إضاءة إيجابية في مسيرة العلاقات بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس، هذه العلاقة التي هيمنت عليها أجواء الشك والصراع والبغضاء والإقصاء المتبادل.
وإذ رحب الفقيد بتلك اللفتة التي لم تخل من محاولة للتخلص من لوثة السياسة والأيديولوجيا، لكن عموم الأوساط اليسارية لم تطمئن لهذه المبادرة، ورأت فيها مناورة لاحتواء الشاعر، والظهور أمام الرأي العام بمظهر ديمقراطي وإنساني. وهكذا وجد الشاعر نفسه فريسة التجاذبات السياسية قبل موته وبعدها.
الإيجابي في هذا المشهد أن الذين رفعوا أصواتهم لطرد خصومهم من مقبرة الرحمان وجدوا من صدهم على هذا الصنيع من داخل التيار اليساري ومن خارجه. فهناك عقلاء لا يزالون يدركون بأن للموت هيبته وقانونه، وأنه في لحظات دفن الأموات لا يجوز أخلاقيا التفكير في تصفية الحسابات أو تسجيل الأهداف لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ولعل وجود هذه الأصوات العاقلة هو الذي ساعد على تجنيب تونس التورط في حرب أهلية. إذ بالرغم من التوترات الأيديولوجية والسياسية بين اليساريين والإسلاميين إلا أن ذلك لم يخرج عن السيطرة، ولم يؤد كما حصل في تجارب أخرى إلى استعمال لغة السلاح وتعميم الفوضى. صحيح أن اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي مثل منعرجا خطيرا في الحياة السياسية، ورغم أن أوساط "الجبهة الشعبية " بشقيها اليساري والناصري، وجهت اتهامها لحركة النهضة بالوقوف وراء ذلك من الناحيتين السياسية والأخلاقية، إلا أن الأبحاث لم تسفر حتى الآن عن وجود دليل ثابت وقطعي للجزم بأن راشد الغنوشي أو حتى علي لعريض الذي كان وزيرا للداخلية هما أو أحدهما المسؤول الفعلي على التخطيط واتخاذ القرار بالاغتيال.
إن أخطر ما يلوث الفضاء السياسي ويفجره أمران قبيحان جدا، وهما التورط في إسالة دم شخص ما بسبب الاختلاف معه في الرأي أو في الانتماء. وثانيا تكفير طرف لمجرد كونه مغاير لك في الدين أو المذهب أو تأويل نص في القرآن أو في الحديث. والجهة الوحيدة التي يمكنها أن تفعل ذلك داخل تونس هما "تنظيم أنصار الشريعة" الذي تبنى عمليتي الاغتيال، قبل أن يتصدر المشهد تنظيم "داعش".