لعلّ أحد فضائل مؤتمر جنيف، هو إظهار النظام السوري بحجمه الحقيقي، ولا أدري إن كان دي ميستورا على هذه الدرجة من الدّهاء، أم إنّ التطورات غير المحسوبة للأحداث، قد صبّت تلقائيّا في تلك النتيجة.
لم يبْدُ بشّار الجعفري،بسقف مناورته الواطئ،ورسنه القصير،الّذي يقبض بشّار الأسد وبطانته على طرفه الآخر،لم يبد لا بحجم الشريك ولا بحجم الخصم حتّى!
أمّا مجادلاته وسجالاته فقد أفلحت في شيءٍ واحد،هو إظهار سيّده الأسد كفارسٍ على حصانٍ خشبي،يقبض على أعنّته بإحكام،ظانّاً أنّه حصانٌ حقيقي!
لقد تغيّرت صورة الأسد اليوم،حتّى في نظر أقرب حلفائه،فبدت أصغر كثيراً،وأكثر شحوباً وضآلة،مما كانت عليه حتّى قبل التدخل الروسي!
وفي ظل ما تكشّف،يبدو أن هناك قرارات تم الاتّفاق بشأنها بين الحليفين اللدودين،الأمريكان والروس،ويبدو أنّها متوافقة بخصوص تحييد الأسد أو استبعاده،من أي حلّ سياسي!أي أنّ الروس أحنوا رؤوسهم أخيراً للحل الأمريكي،حفاظاً على مصالح يمكن القبض على زمامها آنيّاً،وإن لم يفعلوا فستضيع حتماً في غمار حرب استنزافٍ طويلة،ستخوضها الفصائل كلّها،فيما لو أصرّوا على إبقاء الأسد،حتّى ولو في المرحلة الانتقاليّة!
نجاح المعارضة السياسيّة في استقطاب فصائل مسلّحة لها وزنها على الأرض،فرصة ذهبيّة اقتنع الأمريكان والروس بضرورة اغتنامها،خاصّة وأنّ هذه الفصائل وعلى رأسها جيش الإسلام وأحرار الشام،أبدت استعداداً للانسلاخ عن الفصائل الموصومة بالإرهاب،في حين كان الثمن"رأس الأسد"!
ولذا تمسكت المعارضة بطرحها السياسي"هيأة انتقاليّة كاملة الصلاحيّات"!
هيأة انتقاليّة كاملة الصلاحيات،تعني عمليّاً كلّ شيء،وبدونها يعني لاشيء!
عيون الولايات المتحدة والروس،وآذانها بلغتها هتافات الجماهير في حلب وإدلب في ذكرى انطلاق الثورة،شعارات تريد سوريا حرة بنظام ديمقراطي،ولم يرفع أحد شعار النصرة أو الدولة الإسلامية ،ولم يناد أحد بإقامة خلافة!
كانت هذه رسالة بليغة أرسلتها الجماهير،لتقول إنها ملتفة تحت لواء المعارضة السياسية،ما دامت مصرة على استثناء الأسد!
لن يخفى على الحليفين الكبيرين بالطبع،أن إدلب عمليّاً تحت سيطرة جبهة النُّصرة من الناحية العسكريّة،وإن صَمَّ الآذان عن صوت الجماهير التي نجحت المعارضة المفاوضة في استقطابها،سيصب حتما في مصلحة جبهة النصرة،وسيعاود الناس الالتفاف حولها،لو انطفأت بارقة الأمل في "سوريا بدون الأسد ونظامه"!
التدخل الروسي في سوريا،أتاح لها اختبار الأمور عن قرب وخاصّة في المناطق العلويّة،والتي أوصلت رسالة للروس مفادها أنهم على استعداد للتضحية بالأسد،لو كفل لهم الروس الاستمرار في حياتهم المستقرّة وأمنهم الاجتماعي،عوضاً عن اضطرارهم للتطوع في جيش الأسد للدفاع عن مناطقهم التي بقيت آمنة نسبيّاً،ولن تبقى كذلك لو استمرت الحرب!
تركيا ربما تقبل حتى بفدرالية تحول حزب العمال إلى حزب سياسي منشغل بإدارة مناطقه عوضاً عن شن الهجمات عليها،وخلاف ذلك ربّما ستضطر مكرهة إلى التدخل العسكري في شمال سورية،الأمر الذي سيضع كلّاً من الأمريكان والروس بين أمرين أحلاهما مرُّ!فتركيا قابعة هناك بانتظار الحل،وصبرها لن يدوم طويلا!
النجاح النسبي للهدنة هو دخان أبيض أرسلته المعارضة إلى مؤتمر جنيفـ ورُبّما لن يغامر الراعيين بتحويل قنابل الدخان إلى قنابل متفجّرة بتجاهل سحبه البيضاء ورسالتها السلميّة!
النظام يستمر في خوض حربه الدون كيشوتية ضد ما يسميه الإرهاب،ليلفت النظر إليه،ولكنه يحصد نتائج عكسيّة فها هو آشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي يسلم لواء الحرب إلى السعودية ويعلن في نفس الوقت أن قواته ستخوض المعركة على الأرض!
حقيقة أخرى فهمها الروس على الأرض أيضاً،هو العجز الإيراني المطلق في التقدم البري،هو والفصائل الشيعية التي تخوض الحرب تحت لوائه،وقد قُدّمت الجزرة لإيران على أية حال،بقرار رفع العقوبات وفتح أبواب التعاون الاقتصادي،مع تركيّا وأخيراً باكستان!
فهل سيقامر الحلفاء فعلاً بخسارة هذه الفرصة،تجاوباً ربّما مع هدف إسرائيلي غير معلن بتحطيم تركيّا"الإسلاميّة"؟!
على أية حال فإن الخيار المفتوح،هو لم الرهانات عن الطاولة والفوز بكل شيء،مقابل التضحية بالأسد ونظامه،أو خسارة هذه الفرصة التاريخيّة التي تلاقت فيها المصالح بين معارضة مستنيرة وراعيين دوليين متفهّمين،أو خسارة كل شيء والاستمرار في الجعجعة بغير طحن،والركض خلف سراب محاربة الإرهاب،لإرضاء إسرائيل والنظام السوري،الذي لن يرضى إلا إذا أعطي كل شيء!وإن الحكم إلا لله!