رافق الفتى صديقه وجاره في ذهابه لعيادة شقيقته بعد جراحة أجرتها في مستشفى المطرية، حين نزلا من الحافلة الصغيرة «الميكروباص» في طريق العودة، أثار الفتى انتباه أحد رجال الأمن الذين كانوا مستنفرين آنذاك «25 يناير 2014» حيث لاحظ ارتداءه لقميص «تي شيرت» كتب عليه عبارة «وطن بلا تعذيب»، وتلفع بالكوفية الفلسطينية المرقطة.
وجد رجل الأمن في العلامتين ما يبعث على الارتياب فسارع إلى احتجاز الاثنين، وتم اقتيادهما إلى قسم الشرطة للتحقيق والتحري، الفتى الذي ضبط متلبسا بإشهار الشعار ومتلفعا بالكوفية الفلسطينية، كان محمود محمد تلميذ الصف الثاني الثانوي، أما زميله الذي صار محل شبهة فكان إسلام طلعت الطالب بالسنة النهائية بكلية الحقوق، في المخفر تم اتخاذ اللازم لاستنطاقهما بالوسائل المتعارف عليها، وبعد حفلة الضرب والشتم والتهديد أحيلا إلى النيابة التي أمرت بحبسهما، كانت الاتهامات جاهزة لكل مشتبه به، أولها الانضمام إلى جماعة محظورة والثانية التظاهر، وأضيفت إليهما حيازة مواد معدة للاشتعال، ورغم أن التهمة الأخيرة كانت مضحكة لأن الشابين القادمين من زيارة مريضة بمستشفى المطرية، لم يكن أي منهما مضطرا لأن يحمل معه زجاجة «مولوتوف» كما أثبت محضر التحقيق.
الشاهد أن النيابة قررت حبس الاثنين مدة 15 يوما، محمود الذي كان قد بلغ الـ18 من عمره قبل أيام قليلة «من مواليد 1/1/1996 ورفيقه إسلام «23 سنة»، ومنذ ذلك الحين لم يعد يذكر في القضية سوى موضوع «التي شيرت» لأنه الشيء الوحيد الثابت فيها، إذ من باب الحياء لم تذكر الكوفية الفلسطينية التي ظلت حيازتها تهمة غير معلنة، أما موضوع الانضمام للجماعة المحظورة وتهمة التظاهر فلم تؤخذ أي منهما على محمل الجد.
ولأن الأمر في هذه الحدود، فقد تم التحقيق مع محمود ورفيقه إسلام مرة واحدة في أوائل عام 2014 بعد أن نالا حظهما من الضرب والتعذيب.. وحين لم يجد المحققون في الأمر ما يستحق، فإنهما لم يسألا في شيء طوال السنتين اللاحقتين، مع ذلك استمر تجديد الحبس لهما بصورة روتينية طوال الوقت «لدواع أمنية»، وهي الذريعة التي باتت تبرر وجود أكبر عدد من الناس في الحبس لأطول مدة ممكنة.
في 25 يناير من العام الحالي 2016 انتهت مدة الحبس الاحتياطي المقررة قانونا، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإطلاق سراح محمود ورفيقه إسلام، وطوال الوقت ظل محامو المنظمات الحقوقية يتابعون «القضية» إلا أن ذلك لم يمنع من تجاوز مدة الحبس، باعتبار أن «الدواعي الأمنية» لا نهاية لها وحجة لا ترد، فضلا عن أن الالتفاف على القانون له ألف باب، ناهيك عن أن الداخلية مطلقة اليد في الموضوع ولا مجال لمساءلتها.
أخيرا في اليوم الواحد بعد السبعين بعد انتهاء مدة السنتين المحددتين لإطالة الحبس الاحتياطي، قررت محكمة الجنايات إخلاء سبيل محمود وإسلام، وسواء كان ذلك ثمرة جهد محامَي المنظمات الحقوقية «الأستاذان مختار منير ونيرة السيد»، أو لتحسين الصورة بعد إدانة البرلمان الأوروبي لسجل مصر في انتهاكات حقوق الإنسان، أو بعدما أثار الأديب إبراهيم عبد المجيد الموضوع في لقاء الرئيس مع المثقفين، فالشاهد أن الفتى وصاحبه أطلق سراحهما بعدما دفع كل منهما ألف جنيه كفالة.
القصة بوقائعها الغريبة والمدهشة لا تكاد تصدق، حتى تكاد تنتمي إلى عالم العبث واللامعقول، إذ لا أعرف كيف سمحت ضمائر حراس العدالة والأمن باستمرار المسلسل المخجل، كما لا أعرف مدى تأثير التجربة القاسية على الحالة النفسية لمحمود ورفيقه، ولا كيف يمكن إزالة ذلك التأثير أو كيف يمكن تعويض الشابين عن السنتين اللتين قضياها في غياهب السجون المصرية بسبب حكاية التي شيرت «المفخخ»، إلا أن ما جرى يستدعي إلى الواجهة بقوة حزمة من الأسئلة الكبيرة منها مثلا: كم مظلوما من أمثال الشابين البريئين ما يزالون وراء الشمس، ولا يعرف أحد عنهم شيئا؟ وكيف تستريح ضمائرنا نحن الذين خارج السجون، في حين يحدث مثل ذلك وأكثر منه تحت أعيننا وعلمنا ثم نسكت عليه؟ وبأي وجه يدعي بعضنا أن حقوق الإنسان مصونة والانتهاكات حالات فردية أو شائعات مغرضة؟ وكم تكون حياتنا كئيبة وبائسة لو لم ترتفع في فضائنا أصوات الحقوقيين النبلاء (المستهدفين هذه الأيام) الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن حقوق المظلومين في الحياة وفي الكرامة؟
أعذر من يقول بأن حالة محمود ورفيقه أفضل من كثيرين غيرهما ممن قتلوا بغير ذنب في فض الاعتصامات، أو أخفوا ولم يظهر لهم أثر منذ شهور أو سنوات، أو عذبوا حتى أصيبوا بالعاهات والأمراض، أو حكم عليهم بالإعدام وينتظرون نهايتهم كل صباح. أو الذين يتعرضون للموت البطيء في سجن العقرب وأمثاله، أو الذين حكم عليهم بالمؤبد لأسباب تافهة.
هؤلاء الذين لا نعرف أعدادهم أو هوياتهم يقنعوننا بأن إخلاء سبيل محمود ورفيقه ليس سوى قطرة في بحر المظالم التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة. صحيح أن إطلاق سراحهما وعودة كل منهما إلى أهله أمر يفرحنا، ولكنها تظل فرحة مجروحة ومنقوصة لن تمس شغاف القلب إلا إذا طوينا صفحة سِفر القهر والأحزان، فأنصف كل مظلوم وعادت البسمة إلى بيوت المقهورين وذويهم، واقتنع الجميع بأنهم يعيشون في دولة العدل وليس دولة الأمن.
عن صحيفة الشرق القطرية