لا يصح أن تترك ساحة العدالة نهبا للمغامرين وألعوبة في يد بعض الإعلاميين بما يضر بمصالح مصر وأمنها القومي في صميمه، أقول هذا الكلام بمناسبة واقعة شهادة الزور التي قدمها شخص مغمور، يعمل مهندسا، وقال إنه ذهب ـ تطوعا ومن تلقاء نفسه ـ إلى النيابة ليشهد في قضية اغتيال وتعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وروى الشاهد أمام النيابة "حدوتة" مفادها أنه كان حاضرا يوم اختفاء "ريجيني"، أي يوم 24 يناير، خلف القنصلية الإيطالية، وأنه رأى ريجيني يتشاجر مع شخص إيطالي قوي البنيان وأنه خاف أن يتدخل، وأنه قد تعرف من خلال الصور المنشورة في الإعلام على أن الشخص الذي كان يتشاجر معه الآخر الضخم هو الباحث المغدور "جوليو ريجيني"، وبالتالي قرر أن يدلي بشهادته أمام جهات التحقيق، وفي اليوم نفسه كان هذا الشاهد المزور ضيفا على أحد الإعلاميين المقربين من أجهزة الدولة، لكي يؤكد شهادته، ولكي يباركها الإعلامي مؤكدا أنها تنهي مسألة ريجيني، وتبعد أي شبهة عن أي جهة مصرية رسمية بالتورط فيها، وبعد أن قامت النيابة العامة بجهد ذكي ورائع ومسؤول، وتتبعت حركة هذا الشاهد واتصالاته من خلال شركات الاتصال، تبين لها أنه لم يغادر بيته في السادس من أكتوبر في ذلك التوقيت الذي ذكره، أي إنه كان "تحت البطانية" وهو يضرب هذه الرواية الكاذبة والمؤسفة، كما واجهته النيابة بالمعلومات الجديدة فاضطرب وبدأ يتراجع، ثم اعترف بأنه اختلق هذه الشهادة بدعوى أنه كان يريد أن يخدم بلده ويبعد الشبهات عن أجهزتها!
هذه الواقعة المؤسفة زادت الطين بلة، لأنها من جانب ألقت بالمزيد من الشبهات على الأجهزة الرسمية، لأن قطاعا واسعا من الرأي العام لم يقتنع أبدا بأن هذا الشاهد المزور جاء من تلقاء نفسه إلى جهات التحقيق وألف هذه القصة، كما أن ظهوره المطول والسريع في برنامج تليفزيوني يتباهى الإعلامي الذي يقدمه بصلاته القوية بأجهزة أمنية وسيادية، يضفي المزيد من الشبهات على أن "الليلة" كلها كانت مطبوخة.
ومن جانب آخر، فالواقعة عقدت الأمور بالنسبة للدولة ذاتها أمام جهات التحقيق الإيطالية التي تتابع الأمور عن قرب، ومحققوها الآن في القاهرة للحصول على التفاصيل، وقد اهتمت الصحافة الإيطالية بنشر هذه الواقعة كدليل على أن هناك تلاعبا يجري في القاهرة، وقد تسرب أن الواقعة أيضا كانت مثار حوار ونقاش بين النائب العام الإيطالي والنائب العام المصري خلال الأسبوع الماضي، وهذا يعني أن المشهد ازداد بؤسا بسبب تلك الشهادة المزورة، كما أن الاتهامات بتعمد تضليل العدالة زادت واتسعت واكتسبت أدلة مجانية جديدة.
هذا الذي جرى عبث حقيقي، ويكشف عن أن الارتباك هو سيد الموقف في البلد الآن فيما يخص مأساة الباحث الإيطالي المغدور، وقد نشر أن جهات التحقيق قامت بصرف هذا الشاهد المزور من سراي النيابة، وأنا واثق من أنه لن يفلت، لأن ما فعله هو تضليل للعدالة، ناهيك عن توريطه للدولة والحكومة في أزمة أخرى مع الجانب الإيطالي، وأما بخصوص ما حدث إعلاميا، بالتخديم على شهادة الزور وترويجها، فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حملة واسعة شديدة السخط على ما حدث وطالبت بمحاسبة القناة والبرنامج، وبغض النظر عن الحساب من عدمه، وبغض النظر عن الأشخاص وانتماءاتهم، إلا أنه ينبغي أن تكون هناك قواعد حاكمة لهذا السلوك الإعلامي الآن ومستقبلا، خاصة من الهيئة العامة للاستثمار ومجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي، وأن تتضمن تلك القواعد عقوبات رادعة لمن يخترقها أو يتورط في مثل هذه السلوكيات الشائنة والمربكة للدولة ومصالحها الحيوية.
عن صحيفة المصريون المصرية