ما يحتاجه الواقع لقراءته، والمستقبل لاستشرافه، النظر في الماضي؛ إذ بذلك تُعرف مواطن الخلل والانحراف سواء في حالة الاعوجاج المبكر أثناء النشأة، أو الانحراف اللاحق أثناء السيْر في دروب الزمن والوقائع.
أنشئت أول مؤسسة نظامية لضبط الأمن في مصر الحديثة سنة 1805 مع مشروع محمد علي، ولكن يُلحظ أن اسم المؤسسة كان "ديوان الوالي" فجُعلت النسبة إليه لا للمجتمع، ويبدو أن أثر المسمى الأول لم يذهب رغم تعاقب العقود وتجاوزها لقرنين من الزمان، ويُلحظ كذلك أن تشكيل الديوان ضم أربعا من علماء المذاهب الفقهية السنيّة للنظر في بعض المسائل الفقهية، وهو أثر ملحوظ لوضع المجتمع وثقافته التي وجدت لنفسها محلا في المؤسسات الرسمية، دون الاكتفاء بدورها الأهلي، ثم أصدر الوالي محمد سعيد باشا أمرا سنة 1857 برفع ثلاثة دواوين إلى مستوى النِّظَارَة -الوزارة حاليا- ومنها الداخلية، وكانت من اختصاصاتها "أمور الصحة، والمكاتب الملكية (المدارس المدنية)، والمطبعة الأميرية، وأشغال قناة السويس" وغير ذلك من الاختصاصات المتعدّية لحفظ الأمن، وهي أدوار ربما استدعتها ظروف الزمان، وبقيت فكرة تعدد الأدوار مع تزايد الاستبداد، مع فارق الأدوار المنوطة بتلك المؤسسة حاليا وحصرها في الحفاظ على رأس السلطة.
تغيّر مسمّى النظارة عقب الحرب العالمية الأولى، ليصير "الوزارة" وكان أول وزير داخلية "حسين رشدي باشا" 1914 إلى 1919، ويُلحظ خلال فترة ما قبل 1952 عدم اشتراط الأصل المصري في تولي المنصب، ولا التخرج من مدرسة البوليس أو حتى تولي الوظائف الأمنية، كما يُلحظ جمع رؤساء الوزارة لمنصب وزير الداخلية مع كونه رئيسا للوزراء، وأخيرا تواجد سياسيين ومفكرين على رأس الوزارة كبطرس غالي، وسعد زغلول، وإسماعيل صدقي، والنحاس، وأحمد لطفي السيد، وفؤاد سراج الدين، لكن تلك الصبغة المدنية والسياسية والفكرية تم العصف بها مع ما أُزهق تحت أقدام ضباط 1952، وصار ناصر أول العسكريين الذين تولوا الوزارة عقب انقلابه ولم يكن آخرهم، حتى وصلنا للصيغة الحالية من اشتراط كون الوزير من خريجي كلية الشرطة.
قبل مغادرة تاريخ تلك الفترة لا بد من الإشارة لمدرسة الكونستبلات وهي فئة تقع بين الضباط والمجندين، وكانت بالأساس من الأوروبيين، ثم أنشئ قسم من المصريين سنة 1903، واشتُرطت المعرفة الحسنة بالقراءة والكتابة، وفي تعديلات 1936 أُريد تخريج جنود أكثر ثقافة، فاشتُرط للالتحاق بالقسم الحصول على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية مع اجتياز امتحان فى المواد الدراسية المقررة بالسنتين الأولى والثانية من التعليم الثانوي، وجُعلت مدة الدراسة به سنتان، وتدرس به نفس المواد التي كانت تُدرس في قسم الكونستابلات السابق.
مما يجدر ملاحظته في هذا الصدد، أن التعليم الابتدائي لم يكن موازيا لحالته الحالية في هذا الزمان، ويكفي إدراك أن أحد المواد المقررة "مادة النحو" على الصف الثاني الابتدائي في التعليم العام 1902 يدرسها الآن الطلاب المبتدؤون في هذا العلم "كتاب الدروس النحْويّة" على مدرس متخصص، في حين أن منهج النحو في المرحلة الابتدائية كلها الآن لا يحتاج لمعلم للمدرِك المميِّز، وكانت الشهادة الابتدائية تصلح كمؤهل للعمل في بعض الوظائف، فاشتراط الابتدائية في تلك الآونة لا يعني إرادة التجهيل، بل كان خطوة للأمام بعد أن كان المطلوب مجرد معرفة القراءة والكتابة، واحتاجت تلك الخطوة معها اشتراط اجتياز مواد سنتين من المرحلة الثانوية، حتى لا يكون شاغل الوظيفة متدني الإدراك ضيق المعرفة، بخلاف الحالة الحالية، التي تشترط لأمناء الشرطة المؤهل الإعدادي فقط، وتشترط "للضباط" الحصول على 65% فقط من مجموع الثانوية العامة.
لا بد من الإشارة إلى أن ذلك السرد التاريخي المتعلق بالوظيفة والنشأة والاشتراطات مأخوذ في أغلبه من الموقع الرسمي للوزارة.
ما يُخلص إليه من هذا العرض أمور:
أولها: أن النسبة منذ إنشاء المؤسسة كانت للحاكم لا للمجتمع، وحدث ذلك دون مواربة كما يبدو من الاسم "ديوان الوالي"، أو في جمع العديد من رؤساء الوزارات لمنصب الداخلية مع رئاسة الوزراء، وتلك النسبة هي التي تحدد الانحياز، فبقدر ما تقترب النسبة للسلطة يبتعد الانحياز عن الشعب، ولذا كانت أدوار الأمن في كثير من الأحيان وخاصة في قسمه السياسي تنزع إلى البعد عن الانحياز الشعبي.
ثانيها: تمت مراعاة الجانب الثقافي للمؤسسة الأمنية في وقت قوة المجتمع وحيويته، أمَا إرث دولة يوليو القديمة فقد قام بسحق ذلك الجانب مع ما تم من تجريف في الوعي والإدراك والثقافة.
ثالثها: لم يمنع وجود سياسيين ومفكرين - بغض النظر عن الاختلاف مع أطروحاتهم السياسية أو الفكرية- على رأس تلك الوزارة من حفاظهم على مهام الأمن، وإلا ما كان لذلك الوضع أن يستمر لقرن ونصف تقريبا، حتى جاء ناصر وغيّر ذلك الوضع ليُحكم قبضته على مفاصل الدولة من جهة، ويزهق روحها من جهة أخرى، وبالمقابل لم يمنع وجود عسكريين أو أمنيين وجود اضطرابات أمنية، أو حوادث إرهابية طوال فترة ما بعد يوليو 1952.
رابعها: إن ما يبدو شاخصا في الذهن وللبصر، أن المجتمع ما قبل يوليو 1952 كان حيويا رغم الاحتلال والفساد، وسيطرت تلك الحيوية على المشهد بإسقاط الوزارات، وإنشاء الدستور ومناكفة الملك، ومقاومة الإنجليز، وكذلك في تواجد السياسيين أو المثقفين على رأس أهم الوزارات، لكن كل ما حدث لوأد تلك الحيوية لم يكن إلا لصيقا لتلك الحركة التي لا نزال نحصد شوكها، ونتاجا لعقلية ظنت -ولا زالت- أنها أقدر على سياسة الدنيا لا مجرد قطر من الأقطار.
يتبع..