قضايا وآراء

أفكار أولية في تفكيك "الاستعارة الطبّية" الحداثوية و"الاستعارة الرّعوية" التّراثية

1300x600
تصدير:" تلك مفارقة الحرّية ، لقد أصبحت شعارا للذين هم في أقلّ حاجة إليها ، وللذين يرفضونها لمن هم في أمسّ الحاجة إليها" ( إريك هوبسباوم ،Eric Hobsbawm)

من أجل فهم آليات اشتغال المجال العام التونسي، قد يكون من المهمّ  ألاّ نرتهن إلى ما يقوله الفاعلون الجماعيّون عن أنفسهم أو عن خصومهم، الذين ينازعونهم "امتلاك" الحقيقة وما يعنيه ذلك من سيطرة على الرساميل المادية والرمزية للمجتمع. وقد يكون علينا أن ندرس "الاستعارات" المؤسّسية للخطابات التي تدّعي "عقلانية حداثية" أو "شرعية دينية"، تسمحان للأطراف المتحدّثة باسميهما ادّعاء"موضوعية" أو "معيارية"، علينا وضعها موضع التساؤل"الجذري". وسأحاول في هذا المقال مقاربة الاستعارتين المركزيتين اللتين لا تُفلت من هيمنتها أغلب الخطابات السياسية والثقافية المتحكّمة في بلادنا. يمكن الانطلاق في هذه المقاربة المبتسرة والمحتاجة إلى تعميقات لاحقة من فرضيتين"إجرائيتين"، هما اعتبار أنّ "الاستعارة" الرئيسية التي تحكم كل الخطابات "الحداثوية" هي "الاستعارة الطبية" القائمة على ثنائية "السويّ/المرضي"، وهي استعارة لا تدخل التداول العمومي في شكلها الكلينيكي المباشر إلا نادرا، إذ تتخذ  صياغات سياسية متعددة يمكن ردها إلى ثنائية تقدّمي/رجعي ، أمّا الاستعارة الأساسية للفكر الديني فهي "الاستعارة الرعوية" القائمة على ثنائية "الراعي/الرعيّة" التي  تعاش إيمانيا في شكلها الذي لا ينقال في صيغتها الأكثر جذرية مسلم/كافر. ويفترض صاحب هذا المقال أنّ الاستعارة"الجامعة" للأطروحات الدينية والعلمانية كلها هي استعارة"النور/الظلمة"، وهي الاستعارة التي  تجعل من باقي الاستعارات مجرّد  صور جزئية متغيرة، تبعا لتبدّل مواقع التلفّظ وسياقاتها السوسيو-ثقافية، بل مجرد تعبيرات تاريخية عن النمذجة "الرُّهابية" في بنياتها الفصامية Schizomorphes  القائمة –حسب  جيلبار ديران Durand- على "الفلسفة الثنائية وأشكال منطق الإلغاء".

ورغم أنّ "الحالة السويّة" أو المثالية ليست إلا مفهوما إجرائيا في الدراسات النفسية، فإنّ حدة الخطابات ونزعاتها الصدامية تجعلنا نرجّح أنّ النّدوب النفسية "العميقة"، لم تكن حكرا على الإسلاميين دون سواهم (وهو ما تشهد له الدراسة النفسية التي تذكر أنّ قرابة نصف التونسيين يعانون من اضطرابات نفسية)،بل هي ندوب معمّمة يعاني منها الكثير من "التقدميين" الذين يمكن القول بأنهم خاضعين  لمفاعيل "رضّة " نفسية مزدوجة:  الرّضة الأولى تتمثّل في وعيهم"البراغماتي" بضرورة مغادرة مواقعهم الأيديولوجية "الأصلية" دون أن تكون لهم الجرأة الفكرية على صوغ ذلك صياغة نقدية جذرية - فماذا بقي من اليسار ومن مفاهيمه التأسيسية غير "شعارات" باهتة، تم توظيفها في مقاربات ثقافوية برّرت التحالف المشبوه مع المنظومة البرجوازية الحاكمة قبل 14 جانفي 2011 وبعده، وماذا بقي من أطروحات اليسار بعد ما هيمنت عليها "الجملة الليبرالية" بمفاهيم الديمقراطية التمثيلية، ومفاهيم حقوق الإنسان والدولة المدنية، والتداول السلمي على السلطة والتعددية الحزبية وغيرها من الترسانة النظرية للعقل"الليبرالي البرجوازي"؟-، أما الرضة الثانية ، فهي أنّ الثورة قد جعلت الكثير من سدنة "الوعي الطليعي" يقفون على حقيقة أنّ وصايتهم على الشعب واحتكارهم للمجال العام كان مجرّد "ظاهرة تاريخية" غير منفصلة عن بنية النظام القمعي في الدولة الطرفية التابعة. فأغلب النخب-رغم كل ادعاءاتهم الذاتية- كانت جزءا "بنيويا" ووظيفيا من "النظام" الذي قامت الثورة مطالبة بإسقاطه، وهي مطالبة حاول الكثير من "النخب" المنحدرة من النظام السابق إفراغها من دلالاتها العميقة، وحصرها في المستوى السياسي دون ما شرعن له وبرره من أجهزة قمعية أيديولوجي كالجامعة والإعلام والثقافة وغيرها.

إنّ المتتبّع للمشهد السياسي-الثقافي، يلاحظ أنّ أغلب مكوّنات اليسار المتبرجز -وهو غير اليسار الوطني الداعم للمسار التوافقي التعايشي بين الإسلاميين والعلمانيين، والراغب في مغادرة النسق الثقافي الاستبدادي- مازالت تشتغل بذاكرة مؤدلجة وبمفاهيم تحليلية "متجاوَزة" في الأطروحات الأكثر "حداثة" في شقّيها الليبرالي واليساري التقدّمي، وهو ما يضع "حداثة"  أغلب الخطابات المهيمنة على المشهد الإعلامي موضع التساؤل، وذلك بعيدا عن وظيفة "الإشباع النفسي" الذي توفّره "التسمية الذاتية" والشهادات "المشبوهة"، الصادرة عن حلفائها الموضوعيين من الإعلاميين والسياسيين المنتمين إلى "العائلة الديمقراطية"-تلك "العائلة" اتسعت  لمن قامت عليهم الثورة من الشبكات الزبونية وتبادل المصالح، ولكنها ضاقت بكل من حاول الخروج من منطق الإقصاء والاستئصال والصراع "الوجودي" ضد الإسلاميين جميعا، بصرف النظر عن اختلاف مواقفهم من الفلسفة السياسية المؤسسة للدولة الحديثة-. 

تُظهر أغلب التدخلات العمومية من لدن النخب الحداثية أنّ "رُهاب الإسلام"  ليس إلا عنصرا أوّل من عنصرين يدخلان في إطار علاقة استبدالية "غير واعية"، يكون العنصر الثاني منهما هو "رُهاب الديمقراطية". وهو ما يعني أنّ النخبة "الحداثية" التي حافظت بعد 14 جانفي على نفس آليات التفكير ونفس أنظمة التسمية ونفس الاستقطابات "المؤدلجة" المعبّرة عن مصالح مادية ورمزية، لا تنفصل عن "النظام السابق" بمفهومه العام- الذي يتجاوز مظهره"السلطوي"المؤسّسي-، هي نفسها "النخبة" التي ترفض الاعتراف بالإرادة الشعبية عندما تخالف انتظاراتها، متهمة إياها  بـ"الشعبوية"، وهي النخبة نفسها التي ترفض الاعتراف بالانكسار البنيوي الحاصل داخل الحقل السياسي الاستبدادي، الذي نقل تونس من زمن ثقافي إلى زمن آخر، بصورة تعمل الكثير من الخطابات الحداثوية على نسفها أو على الأقل تعطيلها بتوظيف منطق المخلوع ذاته: "حماية النمط المجتمعي ومحاربة الظلامية". ولا شك أن هذه الحقيقة هي من أهم المفارقات التي أظهرتها الثورة التونسية، بحيث يمكننا أن نقول بأنّ أغلب نخبنا الحداثية المنحكمة في لاوعيها بثنائية السوي/المريض، تعاني"ظاهريا" أو في مستوى خطاباتها"الواعية" من "رُهاب الإسلام"، ولكنها تعاني في الحقيقة أي في مستوى لاشعورها المعرفي من "رُهاب الديمقراطية" بحكم ما مثَّله حدثُ الثورة من تهديد جدي لأساطيرها التأسيسية، ولدورها في النسق السلطوي الاستبدادي.

أمّا الإسلاميون، فإنهم باستصحاب "الاستعارة الرّعوية" إلى المجتمع السياسي الحديث، لا يبدون قادرين على التخلّص من "ازدواجية الخطاب" التي تحكم الكثير من أطروحاتهم السياسية، كما أنهم  مازالوا عاجزين عن تجاوز "الازدواجية النفسية" l'ambivalence psychique التي تطبع موقفهم المعرفي والوجودي من "الظاهرة الحداثية" بمختلف تجلياتها القيمية والسلوكية والتشريعية والمؤسساتية -مع فهم أنّ الازدواجية النفسية كما يُعرفها علم النفس الفرويدي، هي أن يكون للإنسان موقفان متناقضان من الموضوع نفسه-. كما أنّ الإسلاميين الذين قبلوا بالعمل السياسي القانوني داخل سقف الدولة-الأمة  L’Etat-Nationلا يُظهرون كفاءة كبيرة في إيجاد صياغة نسقية وغير ملتبسة للتعبير عن معنى "المرجعية الإسلامية"، عندما تتحرك  في مجال  سياسي "وضعي". فالكثير من المشتغلين بالشأن العام لا يستوعبون جيدا المقصود بالمرجعية الدينية في دولة مدنية، أو في دولة يُعتبر الدستور هو مرجعها الأعلى، كما أن الكثير من "المواطنين" لا يفهمون جيدا "الغايات النهائية" لمن يتبنّى هذا الطرح. فهل يهدف التنصيص على "المرجعية الإسلامية" بالتوازي مع مرجعية الدستور إلى "تخليق"المجال السياسي وإبعاده عن المنطق الميكيافلي، أم هو يرمي إلى رفع الازدواجية النفسية عن "المؤمن" وجعله يعيش المواطنة من غير اغتراب ولا احتراب، أم هو محاولة  "لأسلمة" المجتمع على التدريج والتمكين للشريعة-بالمعنى التراثي المنتمي لثقافة ما قبل المواطنة- عبر آليات "الشرعنة"الحديثة المتمثّلة أساسا في"سلطة الأغلبية"؟ ولا يمكن لأي إسلامي منصف أن ينكر وجاهة هذه التساؤلات، بل لا يمكنه أن ينكر أيضا "مشروعية" الكثير من المخاوف التي لا ترتبط بالضرورة برهاب الإسلام، بقدر ارتباطها بالتباس خطاب الإسلام السياسي ذاته. 

لا شكّ في أنّ فهم التأثيرات اللاواعية التي تمارسها "الاستعارة الطبية" -بمعناها الفيزيولوجي والنفسي- و"الاستعارة الرعوية" -بمعناها الديني والسياسي- سيجعلنا  أكثر قدرة على التعامل النقدي مع الادعاءات الذاتية، التي تحكم الخطابات السياسية الساعية ألى "أمثلة" الذات و"شيطنة" خصومها، وهو ما يعني أنّ الاشتغال على البنى المخيالية للوعي السياسي، هو أمرُ لا مفرّ منه إذا ما أردنا تجاوز مخاتلة "الملفوظات الواعية" التي ليست في الحقيقة إلا "السطح" الذي يحجب الأعماق "المخيفة" للصور المخيالية، والأشكال الرمزية المتحكمة في إنتاج الخطابات السياسية المتنازعة على الهيمنة على المجال العام وعلى احتكار خيراته المادية والرمزية.