ما يلاحظ في الحرب المتواصلة على السودان منذ عشرات السنين أن هناك قرارا غربيا واضحا بضرورة منع السودان من التقاط أنفاسه، وإرهاقه بجملة إجراءات وقرارات تجعله عرضة للتشظي والسير في غير اتجاهه العربي الإسلامي.
الملتفت إلى الخريطة الجغرافية، يرى بأن هذا البلد الكبير في مساحته وإمكاناته والخطير في موقعه، يتحكم بخطوط تماس مع إفريقيا تجعل منه الوسيط العربي الحقيقي لإفريقيا بما ينتخبه إليها من مهمات على صعيد العروبة والإسلام، فهو بهذا الاعتبار يمثل رأس القرن الإفريقي، وهو في حقيقة الأمر ملجأ لكثير من أبناء الدول الإفريقية المجاورة، وعلى هذا يصبح الحديث عن السودان في إطار استراتيجي يستخدم أداة التحليل الجيوسياسي فنكتشف أننا في إحدى ساحات الصراع الكبرى مع المشروع الغربي، والتي للأسف تم إشغالنا عنها ليفترسوها في غيبة وعي الأمة، وانهماكها في حروب داخلية وبينية في أماكن شتى.
السودان ليس فقط موقعا استراتيجيا مطلا على الدول الحاسمة في القرن الإفريقي، وهذا وحده كاف للفت النظر إليه، إنما هو أيضا سلة غذاء العرب ويحوي من الطاقات الطبيعية ما لا يتوفر لدى كثير من البلدان العربية الرئيسية، فضلا عن كونه عميق الإحساس بمسئوليته التعليمية والدعوية ونشر رسالة الإسلام في إفريقيا.. من هنا كانت الحرب على السودان تستهدف العروبة والإسلام في جزءٍ هام من الجغرافية العربية والإمكانيات التي تجعل الرسالة قادرة على التحرك.
في الأشهر القليلة الماضية، صدر عن مراكز الأبحاث الصهيونية ودور النشر في الكيان الصهيوني عديد الدراسات الأمنية والوثائق التي تفيد بتورط الأجهزة الأمنية الصهيونية في إحداث انشقاق الجنوب عن السودان بتسليح مجموعات منشقة من الجنوبيين وتدريبهم وتزويدهم بالمعلومات، وتوفير شروط تمددهم من خلال تكنولوجيا الاتصالات والتجسس..
وتواصل الوثائق التي تصدر في الكيان الصهيوني كشفها للأدوار الأمنية التي تستهدف السودان من خلال توفير المناخ السياسي الدولي لإخضاع السودان لواقع التقسيم، وبالفعل تضاعفت الضغوط على البلد الذي أصبح مجبَرا على اختيار أحد السبيلين: إما التفريط بجنوب السودان الذي يعج بالمشاكل والأزمات والمتمردين، أو أن يتعرّض البلد كله للانهيار.. على الأقل هكذا أوصل الغربيون الرسالة إلى السودان واشترك مع الغربيين بعضُ الأطراف العربية التي قامت بوضوح: إما في دعم المتمردين، أو حمل الرسائل إلى السودانيين بضرورة التسليم بواقع الانفصال.
لقد اختار السودان مع ثورة الإنقاذ خطا عربيا إسلاميا واضحا مع المقاومة في كل مكان ضد العدوان الغربي على بلدان الأمة لاسيما فلسطين وضد الكيان الصهيوني بعد أن تورطت حكومة نميري بتصدير الفلاشا من الحبشة إلى الكيان الصهيوني.. الأمر الذي جعله دولة مواجهة فعلية، إذ قام الكيان الصهيوني والأمريكي من خلال سلاح الجو بشنّ العديد من الغارات التي استهدفت مستشفياتٍ وسكاناً عاديين ومنشآت مدنية.. ولعل السودان من البلدان العربية القليلة الرافضة لسياسة التطبيع والاعتراف بإسرائيل رغم بروز أصوات نشاز هنا وهناك تطالب بالذهاب إلى الحضن الصهيوني لاتقاء غضب الغربيين.
لم تتوقف المؤامرة عند شق الجنوب، فهي متواصلة لشقّ عدة أقاليم ليصبح السودان الكبير دولاً ثلاثة أو أربعة، هزيلة مشتتة متصارعة مخترقة لإسرائيل والغرب، وأول هذه الخطوات بعد فصل الجنوب هو ما يصار إليه في هذه الآونة من فصل دارفور.. ومن الواضح أنه لا يوجد أي مسوغ سياسي أو أخلاقي للانفصال بالنسبة للجنوبيين أو دارفور، فليس الاختلاف في الدين سببا وجيها للانفصال، فهناك مجتمعات إثنية عديدة، بل لعل كل مجتمع في العالم يحمل الإثنيات في جوفه، وعلى رأس ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، ولم يرفع احد هناك راية الانفصال رغم الميز العنصري في أمريكا والغرب.. ومن هنا نستطيع تحديد الهدف الغربي والصهيوني، ومن الواضح أن الأسماء المتكررة من الجنوب أو دارفور التي تجعل لها مقاعد في خندق الاتصال بالعدو الصهيوني، إنما تعمل ضمن السياق نفسه في العدوان على وحدة السودان وإنهاء دوره.
وفي أمريكا وفي الكونغرس الأمريكي تتشكل لوبيات لتمنع المحاولات لرفع الحصار عن السودان، ويقف وراءها صهاينة وعملاء سودانيون من الجنوب وسواه رغم أن السودان أخذ وعدا بالالتزام بإنهاء الحصار عنه بمجرد سماحه بإجراء استفتاء الجنوبيين على الانفصال، ولقد تجاوبت حكومة السودان مع الاتفاقيات الموقعة وتغافلت عن حجم التزوير في الاستفتاء والتجاوزات التي وقعت في العملية الانتخابية إلى الدرجة التي تجعلها لاغية، فجلبت عليها نقد كثير من المخلصين للسودان.
والغربيون يفصِّلون لكل بلد عربي أزمة بحجمه، وبمعطيات واقعية تجعل إمكانية خروجه منها شبه مستحيلة، فكل حل للمشكلة هو إمعانٌ في السقوط لما هو أكثر تعقيدا منها.. ولئن اختاروا لسورية نموذجا، واختاروا للعراق نموذجا آخر، ولليبيا نموذجا ثالثا، فهم يختارون للسودان نموذجا مختلفا، ولكن القصد كله إنجاز نصر استراتيجي غربي يحقق عدة أهداف، أوّلها حرمان العرب من عمقهم الأفريقي الاستراتيجي، وحرمانهم من ثروات بلد عربي غني يمثل لهم سلة غذائهم في مرحلة ستشهد بعد قليل الحرب على الغذاء، فتكون حرب الغربيين على السودان هي حرب على مستقبل العرب، وعلى رسالتهم، ومن هنا بالضبط لا يتوقف العقل الاستعماري عن التفكير في إرهاق السودان واستنزافه وللأسف بمشاركة دول عربية لم يتوقف تآمرُها عليه، وأحيانا تمارس ضده الابتزاز العنيف وتخيّره بين سبيلين أحلاهما مرّ.
السودان الآن يدخل بمجموعه السياسي حوارا وطنيا شاملا التقت فيه القوى السودانية من مشارب مختلفة، وطرحت ما يجوز طرحه وما لا يجوز في جو شفاف من الحوار لوضع تصور للنهوض بالبلد على أكثر من صعيد واكتشاف سبل خروجه من أزماته.
إن السودان بمثقفيه ومفكريه وعلمائه وقياداته السياسيين يقدم نموذجا يجب أن يحتذى به؛ أي أنه عندما تغلق عليه المنافذ ينبغي الذهاب إلى أهل الحل والعقد في المجتمع وفتح أبواب الحوار بينهم ومناقشة كل الاحتمالات للتوصل إلى رؤية مشتركة يحصل حولها أكبر إجماع وطني وتستفيد من أقوى الأفكار وأصحها.. إنه بلا شك نموذج مفقود في كثير من بلاد العرب لاسيما تلك التي خدرها البترودولار فأصبحت لا ترى في الجماهير وممثليها ونخبها إلا شيئا آخر عليه فقط أن يخضع للأوامر.
إن الحرص على الأمن العربي يستوجب التعاون بين الدول كما بين المؤسسات الخاصة والعامة لتمتين أوضاع بلداننا العربية وتقوية روح الصمود فيها لمواجهة التحديات، فيجب عدم ترك السودان وحيدا أمام الابتزاز والضغوط، ويجب تقويته بالتجارة معه وفتح القنوات كلها للتأكيد بأن سلامته واستقراره مصلحة عربية قبل أن تكون سودانية.. تولانا الله برحمته.
عن صحيفة الشروق الجزائرية