نشأت معظم الحركات والقوى الإسلامية في العالم العربي والإسلامي وهي تحمل شعارات واضحة تندد بالعلمانية والديمقراطية وتعتبرهما من الأفكار والأنظمة الغربية المعادية للإسلام والمسلمين، ووصل الأمر ببعض التيارات والأحزاب الإسلامية بوصف الديمقراطية أو العلمانية بالكفر، وإن من يؤمن بها كافر.
وقد ألّف المفكرون والكتّاب الإسلاميون عشرات الكتب التي تندد بالعلمانية والديمقراطية وخصوصا في النصف الأول من القرن العشرين، وإن كنا بدأنا نشهد في أواخر القرن العشرين وفي بدايات القرن الواحد والعشرين مراجعات فكرية وسياسية لدى الأوساط الإسلامية حول الموقف من العلمانية والديمقراطية وقد قدّم المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري قراءات جديدة للعلمانية، وميّز بين العلمانية الملحدة والعلمانية المؤمنة أو العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية، كما أنجز رئيس حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي كتابه الهام حول الموقف الإسلامي من الحريات والديمقراطية، إضافة لكتب ودراسات عديدة أعادت النظر في الموقف الإسلامي من العلمانية والديمقراطية لدى العديد من القوى والحركات الاسلامية والمفكرين الإسلاميين.
وأما على الصعيد العملي فقد شاركت معظم القوى والحركات الإسلامية (باستثناء حزب التحرير وبعض التيارات السلفية والجهادية) في الانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية في معظم الدول العربية والإسلامية سواء كانت أنظمة الحكم علمانية أو ديمقراطية أو اشتراكية أو ملكية، ووصل الإسلاميون إلى الحكم في أكثر من بلد عربي وإسلامي وشكلوا الحكومات وأداروا البلاد تحت إشراف الملوك والرؤساء وفي ظل الاحتلال أحيانا أخرى.
وتشكل التجربة التركية إحدى أبرز النماذج حول تعايش التيارات والقوى الإسلامية مع الحكم العلماني والقبول بكل آليات الصراع الديمقراطي، وعلى مدار حوالي خمسة وستين سنة تقريبا نجح الإسلاميون في تركيا في إعادة تفعيل وجودهم وبرزت قيادات إسلامية عديدة أبرزها نجم الدين أربكان إضافة لدور العلماء والمشايخ في تركيا الذين أسسوا مدارس وتيارات متعددة ومنها مدارس النور، ورغم النظام العلماني القاسي في تركيا فقد تطورت تجربة الحركة الاسلامية في تركيا وصولا إلى حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان ورفاقه في العمل السياسي، فيما تحول أخرون إلى حزب السعادة، ومن خلال بوابة الانتخابات البلدية بداية ووصولا إلى الانتخابات النيابية والرئاسية وصل أردوغان إلى أعلى سلطة في الحكم، وطيلة السنوات السابقة أدار حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا وحقق العديد من الإنجازات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ورغم الانتكاسة التي تعرض لها في الانتخابات النيابية في حزيران/ يونيو الماضي مما دفعه للدعوة لإجراء انتخابات جديدة، هاهو الحزب وفي ظل حكم علماني وديمقراطي يحقق إنجازا جديدا بالعودة إلى إدارة البلاد بدون أي شريك.
ولن ندخل في الأسباب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية والعسكرية التي أدت لانتكاسة حزب العدالة في حزيران/ يونيو الماضي والأسباب التي ساهمت في إعادة تغيير الصورة خلال أقل من خمسة أشهر لأن هناك العديد من التقارير والدراسات والتحليلات التي تحدثت عن ذلك، لكن ما يهمنا في هذا المقال هو أن نعود لنؤكد أن خيار العلمانية (خصوصا إذا لم تكن معادية للدين مطلقا) وخيار الديمقراطية يبدو حاليا هو الأفضل والأصلح للقوى والحركات الإسلامية للحفاظ على وجودها وتقديم تجربتها في الحكم وكلما نجحت هذه القوى في خدمة الناس وتأمين مصالحهم كلما اختارهم الناس مجددا عبر صناديق الاقتراع وهذا ما جرى في المغرب مؤخرا وما حصل في مصر وتونس ولبنان وفلسطين ودول أخرى، رغم سوء بعض الأنظمة الانتخابية أو وجود ثغرات في الأنظمة الديمقراطية، وبطبيعة الحال فإن الديكتاتورية والأنظمة التسلطية ليست لصالح القوى والحركات الإسلامية كما هو الحال بالنسبة للتيارات السياسية الأخرى.
ومن هنا الحاجة لإعادة النظر في الموقف الإسلامي من العلمانية والديمقراطية وهل هي الأصلح لإدارة البلاد كي لا تبقى أفكارنا قديمة تعود لقرون ماضية.