لماذا يذهب الفلسطينيون في القدس والضفة الغربية المحتلة بأرجلهم إلى الموت المحتوم فيما يعتقدون أنهم يحملون هذا الموت بأيديهم للإسرائيليين على شفرة سكين؟ ومن يدفع أبناء الضفة للعودة إلى سنوات التوابيت المكشوفة والزنازين المقفلة بعد إنجازات تسوية أوسلو التي حفظت حدا أدنى من الأمن مقارنة مع ما قبلها، وصار لفلسطين دولة وشرطة ورئيس وعلم يُرفع في الأمم المتحدة؟ مَن يحاول أن يستبدل مشاريع إعمار مدن الضفة عبر القروض المصرفية الميسرة والطويلة الأجل بورشة قبور مفتوحة مجانية؟ من قال إن الشباب الفلسطيني يفضل وثائق الملاحقة الأمنية ومذكرات الإحضار والجلب والإعتقال الإداري على شهادات التخرج الجامعي من جامعة بيرزيت وجامعة النجاح؟ لماذا يريد البعض أن يعطي بنيامين نتنياهو حجة لسفك دماء فلسطينية جديدة في المربع الأكثر دقة وحساسية لناحية الوجود الديمغرافي الفلسطيني؟ لماذا يخوض الفلسطينيون معركة خاسرة في الإعلام الغربي الذي بدأ يربط بين سواطير "داعش" وسكاكين "انتفاضة القدس" في مشهدية يدفع آفيغدور ليبرمان عمره للحصول عليها؟ هل تحتاج قيامة فلسطين فعلا انتفاضة ثالثة لتكون مجرد رقم جديد يضاف إلى الأولى والثانية، وتحمل ذاتا إضافية لشهداء وتمزقات أسرية جديدة؟ أليس الأَولى أن توضع السكين على رقبة الإنقسام الوطني الذي تؤذي نهايته حكومة تل أبيب أكثر من نهاية حياة بضعة إسرائيليين يموت يوميا أكثر منهم في حوادث السير؟ هل سيتراجع اليهود عن برنامج تقسيم المسجد الأقصى تحت وطأة سنتيمترات من الحديد المشحوذ بيد فتيان الجينز الساحل والشعر "المجلل" الذين غالبا ما تفجر رصاصات شرطة الاحتلال رؤوسهم قبل بلوغهم أهدافهم؟ أي ذكاء هذا الذي يختار التوقيت البائس لانتفاضة لن تسير لأجلها تظاهرة واحدة في عواصم النكبات العربية المتسلسلة، ولن تنعقد بموازاتها قمة عربية يتوزع أركانها الآن على القبور والسجون والمنافي والمخابئ والحصون؟ لماذا لا يقف المقاومون خلف المفاوض الفلسطيني لشد عضده بدل إفشاله المتعمد عبر السنين، رغم أنه استعاد من الأرض ورمزية الدولة ما لم يستعيدوا؟...
تساؤلات تبدو عقلانية وواقعية، فكيف ستكون بالمقابل الإجابات المفندة بالتفصيل؟
أولا:، إن الشباب المقدسي الذي يجاري الموضة في زيه وشكله هو متخرج أو قيد التخرج من المعاهد والجامعات ولا يفضل بتاتا وثائق الإعتقال وأوامر الخطف والتصفية على حياة كريمة هو أصلا يسعى لتحقيقها إن لم يكن لنفسه فلشعبه على "صهوة" سكين في إبداع يشبه إلى حد ما ثورة شعب فييتنام على المحتل الأميركي حيث كانت السكاكين وأغصان الأشجار المشحوذة حاضرة ضمن أسلحة الفييتناميين المتوفرة.
ثانيا:، إن تسوية أوسلو التي لم تعطِ السيطرة الأمنية والإدارية الكاملة للسلطة الفلسطينية على أكثر من ثلاثة بالمئة من الضفة الغربية، قد أعلن وفاتها مرارا المفاوض الفلسطيني نفسه في أعقاب إصرار الحكومات الإسرائيلية على تدشين المزيد من مشاريع الإستيطان في الضفة، وليس عقب عملية فدائية لفصيل مقاوم هنا أو هناك، كما أن حجم ضحايا الشعب الفلسطيني في الداخل بعد توقيع اتفاقية أوسلو أكبر منه قبلها.
ثالثا:، الذين يقولون إنه صار لفلسطين دولة وشرطة ورئيس وعلم يُرفع في الأمم المتحدة، هم أنفسهم الذين يصفون مناطق السلطة الفلسطينية بالسجن عندما يدعون العرب لزيارتها تحت المقولة الشهيرة (زيارتك السجين في معتقلِه لا تعني أنك تزور السجان) في معرض نفي كون فعل الزيارة تطبيعا مع الاحتلال، ومعلوم أن للسجن شرطة وشاويشا وقواعد صارمة يحددها السجّان.
رابعا:، لا يريد نتنياهو ولا من سبقه ولا من سيخلفه أية حجة لهدر الدماء وهم الذين قتلوا رموز الشعب الفلسطيني وسحلوا المتضامنة الأميركية السلمية راشيل كوري بدبابة لمجرد رفضها قتل الإسرائيليين العشوائي بلا هوادة لكل من هو عربي. وإن قبول منطق الإستماع للحُجج الإسرائيلية شُبهة قد تقود إلى تفهم خرافة "الهيكل" وتبعات لزوم تشييده.
خامسا:، إن الوجود الديمغرافي الفلسطيني أينما كان، مثل أي وجود لشعب هُجّر من أرضه، هو دائما على خط المقاومة ولا سيما في القدس ومحيطها، وإن فتور أي جبهة لا يعني انطفاءها.
سادسا:، لم تَسلم هبّة أو عملية فدائية فلسطينية من انتقاد توقيتها، فدائما هناك لحظة حرجة ووقت عصيب ومنعطف زمني خطير، إلى آخر هذه المصطلحات، طالما عقارب الساعة تدور، وإذا نضب قلق السيد بان كي مون على حظ المقدسيين، فإن قلقه بحد ذاته يقلق السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين.
سابعا:، إن تشبيه بعض الإعلام الغربي المنحاز سكين الشاب المقدسي الشهيد بهاء عليان بساطور "داعش" لا يبدل شيئا في الرأي العام العالمي، بل يجب أن يبدل أشياء في أولويات المال العربي الذي ينفق على الإعلام.
ثامنا:، إن الإنتفاضتين الأولى والثانية ليستا رقمين ليضاف إليهما ثالثة، بل هما مفصلان أساسيان في ثورة الشعب الفلسطيني بقيادة رموز استشهدوا وآخرين في المعتقلات، وإن تحجيم وتسخيف منجزات الإنتفاضتين انقلاب على مفهوم ثنائية البندقية وغصن الزيتون.
تاسعا: ليس أمضى من سكاكين عرسان القدس فتكا بالإنقسام الوطني، حتى ذلك الذي يطل عبر الشاشات ليسوق للخمول الواقعي، فإن زوجته وأبناءه فخورون بجيل "الجِل" (Gel) أكثر من فخرهم بنظّارات أبيهم وتنظيره.
عاشرا:، انتفاضة في الشارع تعني نكبة حقيقية في العقل الصهيوني الذي سارعت نخبه إلى الدعوة لتخفيف الإحتقان الفلسطيني وتجميد الحملات ضد المسجد الأقصى وصولا إلى سقف الإنسحاب من شرقي القدس كما دعا "أوري سافير" عبر صحيفة "معاريف"، لقد فعلت ذلك سنتيمرات الحديد المشحوذ لأن أطنان الصواريخ العربية منشغلة بقصف معارضي الأنظمة وتتعانق جوا في حمأة الحروب المذهبية السوداء.
أحد عشر: وفي ما يتعلق بلحظة غياب الجامعة العربية وانشغالها عن فلسطين فليس أبلغ من أغنية السيدة "سميرة توفيق" (أيام اللولو شو هلّلولو) لفهم الموقف.
أخيرا:، الإجابة على من يسأل لماذا تصفقون من بعيد لمن يضع حياته على حد السكين في القدس؟ ولماذا تهدم أنت من بعيد الجدران على فتية استرخصت أرواحها على مدارج الأقصى، والرجال قليل...