كتب فهمي هويدي: القانون الذي خول رئيس الجمهورية سلطة إقالة رؤساء الهيئات الرقابية والمستقلة أثار في مصر طنينا ولغطا كاد أن ينافس الضجة الذي أحدثها مشروع قانون الإرهاب. ذلك أن الأول كان مفاجئا ولم يكن مفهوما، في حين أن الثاني كان له سياق مفهوم على الأقل. عند الحد الأدنى فإن القانون الجديد أثار ثلاثة أسئلة، الأول يتعلق بمبرراته والثاني بالمقصود به. أما السؤال الثالث فكان عن مدى دستوريته.
باعتبار أنه لم تكن هناك حالة استعجال أو ضرورة دعت الرئيس إلى استخدام حقه القانوني في الانفراد بإصداره باعتبار أنه يملك السلطة التشريعية في غياب البرلمان.
لا مجال للحديث في المبررات والخلفيات، لأن المفاجأة داهمت الجميع، الأمر الذي لا يسمح لنا بالاعتماد على خلفيات يطمئن إليها للإجابة عن السؤالين الأول الثاني. وكما يحدث عادة فإنه في غياب المعلومات ينفتح الباب واسعا أمام التخمينات والشائعات، إلا أن ما أثار الانتباه في هذا الصدد أن الاستنتاجات والشائعات لم تتعدد، لأننا صرنا بإزاء استنتاج واحد صار متواترا لدرجة أنني لم أصادف أحدا اختلف عليه. وكانت تغريدات مواقع التواصل الاجتماعي أسبق وأكثر إفصاحا، ذلك أنها أطلقت عليه «قانون جنينة»، في إشارة إلى اسم المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي منذ عين في منصبه عام 2012 فإنه أخذ المسألة على محمل الجد واختار أن يباشر مهمته بضمير القاضي الذي لا يخشى أحدا غير الله ولا يعرف غير القانون، علما بأن الرجل جاء في أعقاب عصر عم فيه الفساد الذي كانت أغلب أجهزة الرقابة جزءا منه، حتى كان التستر على الفساد وغض الطرف عنه مما يحسب للقائمين عليها، الأمر الذي يبرر الرضا عنهم واستمرارهم في مواقعهم. إضافة إلى ذلك فإن بعض مؤسسات الدولة السيادية والأمنية أيضا كانت فوق الحساب. وهو أمر مفهوم لأن تلك المؤسسات إذا كانت معفاة من أي حساب سياسي فأولى بذلك ألا تخضع قياداتها أو موازناتها لأي حساب آخر. وإذا كانت الظروف وضعتها في موقف الذي يحاسب الآخرين ويتحكم في مصائرهم، فلابد أن يدهشها ويثير حفيظتها أن تصبح ذاتها محلا للحساب.
هذه الخلفية لم تعد سرا، لأن الرجل ــ المستشار هشام جنينة ــ لم يخف موقفه، ولكنه تحدث في وسائل الإعلام عن الفساد في مؤسسات الدولة وبينها الجهات السيادية، وقال إنه قدم 933 بلاغا بهذا المعنى لم يتم التحقيق فيها. وفضح أمر الجهات التي استولت على الأراضي وأهدرت المال العام ورفضت أن تستقبل أو أن تتعاون مع ممثلي جهاز المحاسبات، وهو ما لابد أن يكون قد أغضب أطرافا عدة لها تأثيرها على مركز القرار. ولا أعرف ما إذا كانت تلك الأطراف قد أسهمت في السعي لإبعاده أم لا، لكن القدر الثابت أن وزير العدل الحالي المستشار أحمد الزند لم يكن بعيدا عن تلك الخطوة وبين الرجلين تاريخ من الاشتباك المرير، منذ كان المستشار جنينة أحد رموز الدفاع عن استقلال القضاء الذين خاصمهم المستشار الزند أثناء رئاسته لنادي القضاة، وسعى إلى التنكيل بهم وإقصائهم بكل السبل. وثمة قضايا عدة مرفوعة ضده إحداها اتهم فيها المستشار جنينة السيد الزند بإهدار المال العام. وتتداول مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام شريط فيديو لحوار أجراه أحد الإعلاميين مع المستشار الزند قبل توليه وزارة العدل تحدث فيه عن خصومته لغريمه قائلا إنه سوف يعزل قريبا جدا من منصبه. وكان الرجل يجيب عن سؤال تحريضي للإعلامي قال فيه إن المستشار جنينة اتهم جهات عدة بالضلوع في الفساد، وبدلا من أن يستفسر من رئيس جهاز المحاسبات عن أدلته فإنه سأل الزند: لماذا يبقى الرجل في منصبه؟
تتداول الأوساط القضائية في هذه الأجواء قصة لها دلالتها، ذلك أن ملابسات مريبة أحاطت بصفقة بيع قطعة أرض لنادي القضاة في بورسعيد عام 2009 إلى أحد أقارب زوجة الزند بربع قيمتها السوقية (كان الرجل وقتذاك رئيسا لنادي القضاة). وحين تقدم 15 قاضيا ببلاغ وطعنوا في إجراءات البيع فإن قضيتهم رفضت لسبب أو آخر. وبعد تولي المستشار الزند وزارة العدل فإنه لم ينس الواقعة وأراد أن يصفي حسابه مع الذين رفعوا القضية. ولأن المستشار هشام رءوف كان أول اسم في القضاة الخمسة عشر الذين رفعوها، فإنه فوجئ بخطاب من وزارة العدل بعد أسابيع من تولي الزند لمنصبه في عام 2015 طالبه فيه بسداد مبلغ 640 ألف جنيه قيمة مصاريف الدعوى التي رفعت قبل ست سنوات!.
تلك كلها مجرد قرائن لا تقطع بأن إصدار القانون قصد به شخص المستشار هشام جنينة. وهو ما ستؤيده أو تنفيه الأيام أو الأسابيع المقبلة، وإذا ثبت أنه مستهدف حقا فسيكون قرار إقصائه وساما على صدره بقدر ما إن ذلك سيكون خصما من رصيد النظام، إذ سيحسب له أنه واجه وحده قوى الفساد في مصر، وبعد شهرين فقط من إعلان الرئيس السيسي الحرب على الفساد في مؤسسات الدولة، تمت التضحية به باعتباره رأس الحرب في المعركة الضارية التي يفترض أن يقودها جهاز المحاسبات الذي يترأسه. وفي هذه الحالة فإن سؤالا كبيرا سيطرح نفسه هو: هل كان ذلك تصفية لحسابات الزند فقط أم أنه كان أيضا استجابة لضغوط مؤسسة الفساد في البلد أم أن هناك أسبابا أخرى لا نعلمها ولا يراد الإفصاح عنها؟.
بقي السؤال الثالث عن مدى دستورية القانون الذي أصدره الرئيس السيسي بخصوص إقالة رؤساء الهيئات الرقابية والمستقلة، الذي لنا معه موعد غدا بإذن الله. ليس فقط لأن الحيز المتاح لم يعد يتسع لمزيد الكلام في حين أن الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل، ولكن لأنني وقعت فيه على مفاجأة لم تكن في الحسبان.
(عن بوابة الشرق القطرية- الأربعاء 15 تموز/ يوليو 2015)