لا يمنعني خلافي السياسي مع غالبية أعضاء مجلس نقابة الصحفيين من أن أحيي وقفتهم ضد قانون الإرهاب الجديد، وهي الوقفة التي شجعت هيئات ونقابات أخرى على معارضة المشروع الذي ظن واضعوه أن الأمر قد استقر لهم، وأن أحدا لن يجرؤ على معارضتهم بعد أن "ذبحوا القطة للجميع" قتلا وسجنا وتعذيبا ومطاردة ومداهمة إلخ، وأصبح كل من يعارض -ولو من طرف خفي- مهددا بمصير هؤلاء القتلى والمحبوسين والمطاردين.
تذكرني وقفة نقابة الصحفيين اليوم بوقفة مشابهة ضد قانون أصدره نظام مبارك لقمع الصحافة حين رأى أنها تجاوزت حدود الأدب هو القانون 93 لسنة 1995 ، وقد سخر مبارك من وكيل نقابة الصحفيين وقتها الراحل جلال عيسى، الذي ناشده في احتقال بيوم الإعلاميين إلغاء هذا القانون، قائلا لعيسى:"القانون صدر خلاص.. إحنا موش بنبيع ترمس"، فتداعى الصحفيون إلى جمعية عمومية طارئة ظلت تعقد جلساتها حتى أسقطت هذا القانون/ وأحلت محله القانون 96 الذي لايزال ساريا حتى الآن، وأتحدث هنا باعتباري واحدا من المجموعة المختصة بترتيب فعاليات تلك الجمعية العمومية التي أسقطت القانون، وواحدا ممن شاركوا في وضع مسودة القانون الحالي.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فمن الجنرال مبارك إلى الجنرال السيسي، تتزايد كراهية العسكر للحريات العامة وعلى رأسها حرية الصحافة التي تمثل نبراسا للمجتمع، والتي بلغت عنان السماء بعد ثورة 25 يناير واستمرت حتى انقلاب الثالث من يوليو 2013 الذي أغلق العديد من الصحف والقنوات، وحبس وشرد وطارد عشرات الصحفيين والإعلاميين كعادة أي انقلاب.
هبت النقابة إذن دفاعا عما تبقى من حرية الصحافة فلحقت بها نقابات ومؤسسات أخرى مثل: المحامين والمجلس القومي لحقوق الإنسان، والعديد من الجمعيات والمراكز الحقوقية، ووجدت سلطة السيسي نفسها في مأزق مع حلفائها الذين دعموا الانقلاب من قبل وكانوا ينتظرون ردا لهذا الجميل، واضطر رئيس الوزراء إبراهيم محلب أن يلتقي بمجلس نقابة الصحفيين لمحاولة ثنيه عن معارضة المشروع بحجة الأمن القومي وحرب الإرهاب، لكن الصحفيين بمن فيهم داعمو السيسي يشعرون بخطر ليس على حرياتهم من هذا المشروع فهم يعتقدون أنهم آمنون، ولكن الخطر الأكبر على لقمة عيشهم، ذلك بأن القانون سيقتل الصحافة المصرية، وسيخلي الساحة لتمدد وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي ستتمتع بقدر أكبر من الحرية والتنوع في تغطياتها الإخبارية، على عكس نظيرتها المصرية التي ستضطر للالتزام بالمعلومات الحكومية فقط، فيعكف الجمهور عن شرائها فلاتجد رواتب موظفيها وتكلفة طباعتها.
الماددة 33 من المشروع كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير الصحفي، بنصها على الحبس في قضايا النشر بالمخالفة الواضحة لنص المادة 71 من الدستور التي تمنع تماما العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر، لكنها لم تكن المادة الوحيدة التي أثارت الصحفيين، ولا المادة الوحيدة التي أشعلت ثورة الغضب في نقابات ومؤسسات أخرى، فنحن أمام مشروع قانون استثنائي بكل معاني الكلمة، مخالف للدستور الذي وضعه العسكر انفسهم في العديد من نصوصه، سواء الحبس في قضايا النشر، أو منع تدفق المعلومات، أو محاكمة الأفكار وليس الجرائم الفعلية على طريقة محاكم التفتيش الأوروبية قديما، أو تجاهل النقابات التي منحها الدستور حق مناقشة ما يخصها من تشريعات قبل إقرارها، أو تحصين رجال الشرطة من المساءلة، أو الانتقاص من متطلبات العدالة، والتدخل في عمل القضاء إلخ.
المخالفات الدستورية الفجة في هذا المشروع بدت كأمر رويتني، بعد أن فعلها قائد الانقلاب وسلطته كثيرا من قبل دون أن يتعرض له أحد، ولم لا وقد بدأ عهده بهذه المخالفات لدستور وصفوه بأنه أعظم دستور في الكون !!! وإدعوا كذبا أن أكثر من 20 مليون مصري أقروه في استفتاء عام، لكنهم جعلوه مثل آلهة العجوة التي صنعها مشركو قريش، وراحوا يقضمونها قطعة قطعة كلما شعروا بالجوع.
في الإحصائية السنوية لقسم التشريع في مجلس الدولة، رفض القسم تمرير 39 قانونا لتعارضها مع الدستور، كما طلب استيفاء 19 مشروعا آخر لشروط معينة حتى تتفق مع الدستور.
ذكرت الإحصائية أيضا أنّ السيسي والكثير من وزارات وأجهزة الدولة تجاهلت الإلزام الدستوري الوارد في المادة 190، وتعمّدت إصدار قوانينها، إمّا دون عرضها من الأساس على مجلس الدولة، مثل قوانين (الحدّ الأقصى للأجور، وشهادات استثمار قناة السويس، وتحيا مصر)، ولعلّ قانون إنشاء وتنظيم عمل اللجنة القومية لاسترداد الأصول هو أبرز الأمثلة التي ساقتها الإحصائية، إذ أعاد القسم مشروع القانون إلى مجلس الوزراء لتوافر شبهة عدم الدستورية في مواده، لكن المجلس تجاهل مشروع القانون وأرسله إلى السيسي، الذي أصدره بالفعل (في 16 ديسمبركانون الأول الماضي).
أيضا أعاد قسم التشريع مشروع قانون يقضي بتعديل بعض أحكام قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، إلى وزارة التجارة والصناعة في 4 أغسطس آب، بالتزامن مع إصدار السيسي قرارا جمهوريا بإقرار التعديلات ونشرها في الجريدة الرسمية، وهو الأمر الذي تكرّر مع قوانين مثل تنظيم الأحداث الرياضية وحماية المشاركين فيها، والمنشآت الرياضية، وتعديل بعض أحكام قانون الزراعة، ومشروع قانون لإنشاء نقابة عامة للعلوم الطبية.
كانت المخالفة الفجة الأولى هي تأخير موعد الانتخابات الرئاسية عن المدة المقررة دستوريا( خلال 90 يوما من إقرار القانون)، إذ كان تمرير الدستور في منتصف يناير 2014 بينما جرت الانتخابات الرئاسية منتصف مايو أي بعد 4 شهور، ثم كانت المخالفة الدستورية الثانية هي عدم إجراء الانتخابات البرلمانية حتى الآن بالمخالفة للمادة 230 من تعديلات الدستور، التي تنص على إجرائها خلال ستة أشهر فقط من تمرير الدستور.
وإذا كان ليبراليو العسكر يدعون أن تعديلاتهم الدستورية هي الأفضل تاريخيا في مجال الحريات العامة، فها هي نصوص الحريات العامة في الدستور تداس بأحذية العسكر، فإذا كانت المادة 54 تنص على حق أي محتجز أن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال 24 ساعة بحضور محاميه، فإن الواقع يمتلئ بمئات الحالات التي تعتقل ثم تختفي قسريا لأيام ولأسابيع، قبل أن تبدأ معها التحقيقات في غيبة المحامين، بل يتعرضون خلال فترة الاختفاء للتعذيب والإكراه بالمخالفة لنص المادة 55 من الدستور التي تمنع ذلك تماما وتعاقب فاعله.
الذين شاركوا في وضع دستور العسكر لم يسلموا أنفسهم من أذى العسكر، فقد تعرضوا للتجسس على مكالماتهم الشخصية ونشرها علنا في برامج تليفزيونية مدعومة من سلطة الإنقلاب بالمخالفة للمادة 57، والقضاة الذين يتنافسون في خدمة العسكر لم يسلموا أيضا من الأذى، فبخلاف القانون الجديد لمكافحة ما يسمى الإرهاب، الذي تضمن عدة نصوص تنتقص من صلاحياتهم وتتدخل في عملهم، فإن هناك انتهاكات سابقة مثل تدخل السيسي بإصدار قانون يوم 12 نوفمبر الماضي لترحيل صحفيي الجزيرة الإنجليزية بعد الضغوط الشديدة قبل أن تنتهي محاكمتهم تماما بالمخالفة للمادة 184.
التهجير القسري لأهل سيناء من الشريط الحدودي يخالف بشكل واضح المادة 63 التي تنص على حظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، وتعتبر مخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم.
أما المحاكمات العسكرية للمدنيين التي كانت محل استهجان كبير- على قلتها بعد الثورة- فقد توسعت كثيرا بالمخالفة للنص الدستوري (204)، الذي يقصر تلك المحاكمات على العسكريين ومنشآتهم فقط، حيث أصدر السيسي في 27 أكتوبر 2014 قرارا بقانون فتح الباب واسعا لتلك المحاكمات بعد أن أسبغ الصفة العسكرية على أي منشآت مدنية، تحرسها قوات الجيش والشرطة.
وهكذا يتضح أن حكم العسكر دوما لايعترف بالدستور حتى لو كان هو من وضعه، وهو ما تكرر من عبد الناصر والسادات ومبارك، وأخيرا السيسي الذي ألغى بجرة قلم دستورا شرعيا كان هو من يحمي صناديقه حين كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس مرسي، ثم ها هو يقضم كل يوم جزءا من تعديلات دستورية أدخلتها سلطته الانقلابية، ولكنه يراها قيودا على سلطانه المطلق، ألم أقل لكم إنهم يشبهون عرب الجاهلية، الذين كانوا يأكلون آلهتهم المصنوعة من العجوة كلما وجدوا حاجة لذلك؟!