لا تبدو الحوادث التي تستهدف بعض عناصر المقاومة في غزة، وتتبنّاها جهة تسمي نفسها بـ "أنصار الدولة الإسلامية في بيت المقدس"، غريبة عن السياق العام للتنظيم الأمّ الذي يُتخذ اسمه عنوانًا لمثل هذه الحوادث، أو تَسترشد بأفعاله ومقولاته بعض الجهات بالفعل، فالعالم كله بات مقسومًا إلى فئتين، في الأولى يندرج: الكفار الأصليون والمرتدون والصحوات، وفي الثانية تندرج: "الدولة الإسلامية" ومن يبايعها، إلا أن هذا المآل الذي بلغته تجربة الزرقاوي في العراق نتيجة طبيعية لتلك البذرة التي غرسها الرجل، وأذكر أنني بدأت بالقول منذ العام 2004 في عدد من الحوارات في السجون والجامعات والمنتديات الحوارية بأننا لن ننتظر طويلاً حتى يَعقد بعض الصبية محكمة شرعية يقررون فيها ردّة أحد مقاومي "حماس" ثم يقضون بقتله، ويبدو أن توقعاتي، وللأسف، قد أصابت بأكثر مما خمّنت في ذلك الوقت!
إلا أن الغريب بالفعل ما يظهره عدد من المثقفين والمساهمين بالرأي في المجال العام من تعاطف خفي أو صريح مع "الدولة الإسلامية"، التي لا تتورع عن استباحة دماء الآمنين، والواضحة في ممارساتها التي تستهدف بها أي جماعة تعارضها أو تصطدم مع طموحاتها، متوسلة بجرأة فائقة على إعادة تدوير النصوص الشرعية، وتوسيع مفهوم "الكفر" و"الردّة" ليشمل أي أحد تقرر الخلاص منه لسبب ما. ويفترض بمثل هؤلاء المتعاطفين معها أنهم على اطلاع كاف يغني عن استعراض ممارسات هذا التنظيم في غير مكان في هذا العالم.
تتعدد مستويات التعاطف ودوافعه، ومنها الانبهار بالقوة والإنجاز، والتقاطع في مكان ما، كما هو الحال في العراق، وينتهي الأمر إلى نوع من الدعاية للتنظيم، مع كفٍّ عن أي ممارسة نقدية صارمة وجادّة لخطاب التنظيم وممارساته، ومع امتناع عن الالتزام بما تقتضيه حسبة الموازنات بين أخطار التنظيم المحدقة وبين إنجازاته التي يجد فيها بعضهم سببًا للتقاطع معه، أو للإعجاب به، وفي ذلك كله قدر من الهوى، يمنع من رؤية المسار والأخطار التي تهدد بها المقدمات، ويحول دون قيام المثقف بمساهمته الأساسية في النصح للأمة، إلى درجة قد تبلغ حد تضليل الأمة والمساهمة في الكوارث الراهنة والقادمة، وبما يثير السؤال عن مفهوم التحرر لدى بعض الإسلاميين، ليظهر أن موقفهم من الظلم والبغي والطغيان متعلق بهوية صاحبه لا بجوهره، وبما يتفق في النتيجة مع تصورات "محور المقاومة" التي تجعل من كل ظلم وعدوان فعلاً مقاومًا طالما مارسه مقاوم أو داعم للمقاومة، وفي المقابل فإن كل بغي وطغيان محمود طالما مارسه متلفع بالشعار الإسلامي!
وقد لفتني أن بعض المتعاطفين مع "داعش" اليوم كانوا من المتعاطفين مع "حزب الله" بالأمس، وعلى نحو ينطوي على شيء من التشابه، فمنذ العام 2000 على الأقل جمعتني حوارات مع عدد من الزملاء الطلاب والمثقفين والمشايخ والساسة حول نقاط الالتقاء والافتراق مع حزب الله، كنت أرى فيها أن التقاءنا مع حزب الله على أساس المقاومة، وتأييدنا للحزب في مقاومته، لا ينبغي أن يمنعنا عن رؤية نقاط افتراق جوهرية مؤسسة على مرجعية الحزب وبنيته الطائفية واصطفافه داخل مشروع مفارق للأمة، سينتهي به في لحظة ما إلى الاصطدام مع عموم الأمة.
وفي المقابل كانت ترى الأكثرية من زملائي الطلاب في الجامعة ثم في السجن، وعدد آخر من الزملاء المثقفين والمشايخ والقادة السياسيين، بأن العلاقة مع حزب الله لا تتضمن أي عنصر خلافي، وبأن مرجعية الحزب وبنيته لا تنهضان على أساس طائفي، وكان يصل الحوار حدًا يُظهر افتقار تلك الأكثرية إلى المعرفة الصحيحة بكل عناصر الموضوع ابتداء من المرجعية المذهبية للحزب المتمثلة في التشيع الإمامي الاثني عشري وما انبنى عليه من نظرية ولاية الفقيه مرورًا بكل عناصر الموضوع الضرورية، وإذا كان هذا مفهومًا في بيئة تفتقر إلى الوعي الطائفي فإنه غير محمود ما تعلق بالمثقفين والقادة وصناع الرأي العام.
بدت المشكلة في الافتقار المعرفي لدى المسؤولين عن صياغة المواقف تجاه شركاء المقاومة في المحور الإيراني، في ذلك الوقت، والذي يضمّ بالضرورة حزب الله؛ إذ يقتضي الواجب أن تصاغ تلك المواقف على نحو لا ينفلت من ملاحظة نقاط الافتراق الجوهرية والتي توجب قدرًا من التحفظ بما يؤدّي للأمة حقها إزاء الحقيقة ويحفظ لها توازنها، بيد أن الانبهار بحزب الله، أو الإيمان العميق بالالتقاء التامّ معه، أو محض الذرائعية، كان يولّد ممانعة هائلة لأي جهد معرفيّ يحاول التبصير بنقاط الافتراق والالتقاء في إطار من النقاش العلمي بعيدًا عن السجال أو تحويل المعرفة إلى خطاب في المنابر العامة، وقد أدّت تلك الممانعة بالبعض إلى تزوير الحقائق التاريخية والفكرية والسياسية، وأدّت ببعض الجماعات إلى الذهاب بعيدًا في التماهي مع إيران وحزب الله بما تدفع ثمنه الآن.
كان التوازن هو المطلوب في التعامل حزب الله بما يحافظ على فكرة المقاومة ويعطي صاحبها حقه بصرف النظر عن هويته الطائفية، وفي الوقت نفسه يمنع من الذهاب بعيدًا في الترويج لطرف تفصلنا عنه العديد من نقاط الافتراق لأسباب تتعلق ببنيته ومرجعيته ومشروعه الخاصّ، بينما المطلوب الآن في حالة "داعش" الوقوف في مواجهة استباحتها للأمة في المجالات كلها، والتصدي لها فكريًا وشرعيًا وعمليًا حتى لا يتحمل كل من موقع مسؤوليته كِفلاً من كوارث وجرائم هذا التنظيم.