كتاب عربي 21

نهاية الإسلام السياسي.. حديث خرافة

1300x600
لم يهزم الإسلام السياسي منذ بروزه في العالمين العربي والإسلامي قبل أكثر من ثلاثة عقود في أي منازلة انتخابية قامت على أسس سلطوية أو ديمقراطية منقوصة، وقد برهن عقب انطلاق الثورات العربية على أنه قوة لا مجال للتغلب عليها عبر صناديق الاقتراع، وفي كل مرة يتم فيها قطع مسارات العملية الديمقراطية عبر الانقلابات العسكرية تتنامى الخطابات الرغبوية بنهاية الإسلام السياسي.

تفهم أسباب بروز ظاهرة الإسلام السياسي تستند دوما إلى قراءات إيديولوجية بائسة لا تحتكم إلى منطق معرفي يقوم على أسس علمية صلبة، فالجدال والسجال لا يزال نشطا وحيويا عربيا وإسلاميا وعالميا من  أجل محاولة الاقتراب من فهم وتفسير الظاهرة, وإذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد ساهمت في توليد مزيد من الزخم المكثف في تتبع الظاهرة بلغ في بعض الأحيان حد الهوس والعصاب في الاقتراب من تفسير الظاهرة وتعليلها، فقد هيمنت عقب الانقلابات العسكرية الأخيرة مقاربات تجاوزت حدود المعقولية بلغت حد الوقاحة الإنكارية والجنون المطبق.

 وفي هذا السياق تعتبر المقاربة الاستشراقية الثقافوية مفتاحا أساسيا ومركزيا في معرفة جذور إساءة القراءة  للإسلام عموما وظاهرة الإسلام السياسي خصوصا، إذ تتمتع المقاربة الثقافوية بحضور كثيف لدى نخبة كبيرة من المفكرين في العالم من أمثال صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس، ويبدو أن أنصار حديث الثقافة مجمعون على أن الدين هو الذي يقود الثقافة والسياسة في العالم الإسلامي، ومتفقون على أن دوافع العنف الإسلامي نابعة من أصولية دينية متطرفة، ولم يعد خافيا على أحد اليوم مجانبة هذا التحليل للصواب، فضلا عن دوافعه الاستراتيجية الإمبريالية المكشوفة وذلك بقصد الهيمنة والسيطرة والتحكم في العالم، ومن المؤسف أن هذه المقاربة تجد لها أنصارا و أتباعا في عالمنا العربي والإسلامي من لدن أكثر النخب الثقافية والسياسية والمالية المتحكمة، ولا تزال هذه النخب التابعة والمعزولة تمارس سياسات تحريضية وتعبوية ضد أبناء جلدتها وأمتها، إما طمعا بتحقيق مصالح ومكاسب شخصية أو جهلا بمقاصد الآخرين.

 لحسن الحظ لا نعدم وجود أطروحات تفسيرية لافتة للنظر مغايرة عن النهج الاستشراقي والثقافوي تبتعد عن حديث الثقافة الفج مع أنها لا تنجو تماما من آثاره و تقع كثيرا في شراكه، ومن أبرزها أطروحتان قدمهما الباحثان الفرنسيان جيل كيبل وأوليفييه روا، إذ يحاول كيبل تفهم التاريخ الفكري للإسلام السياسي، أما روا فيسعى إلى تفهم الظروف الاجتماعية التي تنتج تفكير وسلوك المسلمين، إذ يستبعد المقاربة الثقافية التي تعتبر الإسلام هو القضية وذلك عن طريق التوسل بفرضيات تتعلق بالأحداث والوقائع، وبحسب روا فإن السمة الأساسية للقرآن الكريم ليس فيما يقول عن الواقع، ولكن ما يقوله المسلمون عنه، ولذلك فلا غرابة في اختلاف المسلمين حول الفهم والتفسير القرآني.

تمتاز رؤية كيبل بتتبع مسارين مختلفين جوهريا في الفكر الإسلامي، الأول المدرسة الوهابية السلفية الهادئة، والثاني الفكر السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وقد اندمجت هاتان المدرستان لاحقا وأنتجتا أيديولوجيا توفيقية هجينة متعاطفة إلى حد كبير مع أطروحات أسامه بن لادن، وعلى خلاف رؤى أصحاب المقاربة الثقافوية التي تصور بن لادن وأنصاره كأحفاد خطيين للوهابية السعودية واعتبارهم مازالوا يعيشون في عصر ما قبل الحداثة؛ فإن كيبل ينظر إليهم كمنتجات مختلطة وهجينة لتقاليد فكرية متعددة، ومع أن كيبل يحاول اتباع منهجا تاريخيا حذرا، إلا أنه يسقط كثيرا في شباك الرؤية الثقافوية حين يصر في أكثر من موضع على ربط العقلانية بالغرب والميتافيزيقا والميثولوجيا بالإسلام، ومع أنه  يحرص بشدة على تتبع الحوار والنقاش والجدل الإسلامي الداخلي إلا أن تصوره للإسلام المعاصر كمنتج لتقليد خطي أفقده القدرة على فهم المسلمين بصورة متكاملة تاريخيا وعالميا، ولعل هذه النقطة هي التي جعلت أوليفييه روا يتجاوز تحليل كيبل التاريخي، وحملته على اعتماد المقاربة الاجتماعية.

يجتهد روا في شرح أسباب انتشار الإسلام الجهادي داخل المجتمعات التي يعمل فيها، ويرى أن هذا الانتشار هو سبب وردة فعل على التغيرات الاجتماعية، وليس دليلا على ثبات القيم كما هو شائع في رؤية المذهب الثقافوي، أو كنتيجة تاريخية مباشرة للدعم الأمريكي والسعودي للمشروع الوهابي كما يرى كيبل، إذ يميّز روا بين الأصوليين الجدد المعاصرين والأصوليين التقليديين كالوهابيين الذين حاولوا منذ قرون أن يفصلوا الإسلام عن الثقافات العرقية، وانخرطوا في كل مكان بمعارك ضد الإسلام المحلي كالتصوف في جنوب آسيا والمرابطون في شمال افريقيا، كما حاربوا الموسيقى والطقوس في كافة الأمكنة، و هاجموا  المذاهب الفقهية الإسلامية التاريخية كالشافعية و المالكية والحنفية.

الإسلام الأصولي الجديد بحسب روا يولد من جديد وهو منتج لمسلمي الشتات، وذلك لأن النقاش الديني الإسلامي لم يعد حكرا على العلماء، حيث تحول الأصوليون الجدد إلى فضاءات الإنترنت، ونتيجة لذلك أصبح الدين دنيويا، أي أنه بات يناقش خارج أي مؤسسات معينة، ومع اختفاء المجتمع التقليدي وغياب القيم التقليدية، بدأت عمليات إعادة الأسلمة وأصبحت مشروعا فرديا، ومضى مشروع الإحياء الإسلامي بالموازاة مع الاتجاه الحديث الذي يعرف بثقافة الذات، وهو ما دفع بالمؤمنين إلى خلق مجتمع جديد يتجاوز حدود الجغرافيا الصارمة، ويرى روا أن عنف القاعدة ينتمي إلى السياسة وليس الدين، فالقاعدة لم تستهدف كنيسة سانت بيتر في روما، وإنما مركز التجارة العالمي والبنتاغون، أي أنها استهدفت الإمبريالية الحديثة كما فعل اليساريون في أواخر الستينيات وبنجاح أقل في السبعينيات. وبالإضافة إلى الشعار المعروف بأنه لا فصل في الإسلام بين السياسة والدين، فإن مفهوم الجهاد تم تجديده وإحيائه طبقا لمبادئ الأصوليين الجدد، بعد أن أضفي عليه طابع شخصي، حيث تحول إلى أداة سياسية، ويؤكد روا على خلاف المعتقد الغربي الشائع على أن الجهاد ليس ركنا من أركان الإسلام الخمسة وعلى أنه قد فهم كواجب دفاعي جماعي لمدة طويلة، إلا أن الراديكاليين المحدثين في الوقت الراهن يقدمون الجهاد كواجب فردي دائم من أجل محاربة الغرب.

على الرغم من التحليل الاجتماعي الرصين لروا إلا أنه يبقى ناقصا ومحدودا دوما، ولا يقدم صورة متكاملة لطبيعة الإسلام المتطرف، ورغم ابتعاده عن افتراضات أصحاب المقترب الثقافوي أكثر من كيبل إلا أنهما يتقاسمان عيوبا مشتركة، فولادة الإسلام الجهادي الذي يضع العنف في مركز العمل السياسي الإسلامي لا يمكن فهمه باعتماد مبدأ السبب الكافي والمصلحة وفق الرهانات الدنيوية حصرا، وذلك بسبب الطبيعة الراسخة للممارسة الإسلامية التي لا تنفك عن ربط النظر بالعمل والعقل بالغيب.

 لا يخرج كيبل وروا عن الرؤية التي استقرت في وعي دارسي العلوم الاجتماعية في الغرب، باعتبار الدين عبارة عن نسق رمزي ينتج عن دخول الإنسان في علاقة مع قوة متعالية، فيما السياسة تمثل نسقا من علاقات القوة المادية ينظم التعايش والنزاع، ويتلبس بمحاولات الهيمنة، وهي عين الرؤية التي تضع حدودا صلبة بين المجالات الدينية والسياسية والتي نشأت وازدهرت في أحضان الرؤية الوضعية للعلوم الاجتماعية، ولا سبيل إلى التحرر من هذه الهيمنة إلا بسلوك سبيل يعي جانب التداخل في أفعال الإنسان رمزيا وماديا وغيبيا، ويضع مفاهيم التضحية والشرف والزهد وغيرها في صلب التحليل الاجتماعي لتفهم دوافع البشر الفاعلين، ولعل غياب هذه المفاهيم هو أبرز نقاط ضعف أطروحات ورؤى كل من جيل كيبل و أوليفيية روا على الرغم من تماسكها ووجاهتها النظرية، وبهذا فإن الإصرار على التبشير بنهاية الإسلام السياسي لا يعدو كونه حديث خرافة لا أكثر.