تونس اليوم عبارة عن قِدْرٍ أحكم غطاؤه وهو يغلي فوق نار تزداد اشتعالا. أسوأ ما تعيشه أي دولة هو أن تكون هذا القِدر الذي لا أحد تقدّم لإطفاء النار الملتهبة تحته، ولا حتى لتحريك غطائه قليلا لعلّ خروج بعض البخار يؤجّل الانفجار المحتوم.
ما يدفع إلى رسم صورة بهذه القتامة مجموعة عناصر تفور حاليا بلا هوادة:
أولا: رئيس دولة لا يبالي بأي شيء ولا يستمع لأي أحد، لا همّ له إلا تغيير القوانين على مقاسه من أجل «تونس جديدة» لا توجد إلا في خياله. لا يتحدث إلا بلغة تقسيم البلاد والعباد بين طالحين وصالحين لا نعرف أحدا من بين هؤلاء أو أولئك.
هذا الرئيس لا يعرف متى وكيف يتحدّث إلى أبناء شعبه، ولا يبدو معنيا حقا بما يعانونه في حياتهم اليومية، وإن تحدث فهو لا يفعل إلا بلهجة متوتّرة مبهمة لا تقدم ولا تأخر، ناهيك أن تبعث بأي رسالة طمأنة أو تهدئة، مع حماسة لمشاريع ملتبسة من نوع «الشركات الأهلية» غريبة الأطوار.
ثانيا: حكومة لا حول لها ولا قوة، برئيسة باهتة لم نرها يوما تتحدث إلى الشعب بعد أن قبلت على نفسها أن تكتفي في كل مرة بالجلوس أمام مكتب الرئيس تهز برأسها ليس إلا !! أما بقية الوزراء فشخصيات نكرة في الغالب بلا رؤية ولا قدرة على التسيير أو الابتكار، يعودون في كل كبيرة وصغيرة إلى الرئيس دون أي شعور بالإحراج أو بالإهانة الشخصية التي رضوا بها لأنفسهم، وزراء إذا تحدثوا يثيرون من السخط أكثر مما لو ظلوا ساكتين. ربما لم تعرف تونس في كامل تاريخها الحديث حكومة بمثل هذا الهزال الفاقع.
ثالثا: معارضة وإن استطاعت أن توسّع قدرتها على التعبئة، كما بدا ذلك في مظاهرة الأحد الماضي، إلا أنها ما زالت غير قادرة على كسب ثقة أوسع قطاع ممكن من الناس، ليس فقط لأنها ارتبطت في أذهان هؤلاء برواسب سلبية مختلفة في السنوات الماضية، حقيقية أو مفتعلة، بل أيضا لأنها بدت عاجزة على الالتقاء العريض بين مكوّناتها المختلفة على حد أدنى مرحلي لعودة الديمقراطية ودستور 2014، يقدّم إلى الناس بشكل واضح ومقنع، فضلا عن الفشل في تجديد قيادييها وخطابها، ثم إن القوتين الأبرز الآن في هذه المعارضة يعاني كل منهما عيبا قاتلا: حركة «النهضة» منسوب الغضب الشعبي منها كبير، وحزب «الدستوري الحر» مخيف في خطابه الإقصائي الشعبوي، وكلاهما لا يملك جرأة نقد إرثه وتاريخه.
رابعا، شعب غاضب يئن تحت وطأة غلاء فاحش لا يُطاق أفقر الطبقة الوسطى تقريبا وسحق من كان فقيرا معدما. كما فُقدت من الأسواق مواد ما كان يظن التونسي أن تفقد يوما مثل الوقود والخبز والسكر والقهوة والزيت وحتى الماء المعدني وغير ذلك. تونس اليوم تعيش على مساعدات عاجلة عبر قروض خارجية محدودة حتى لا يموت الناس جوعا ليس أكثر، آخرها ما أعلنه صندوق النقد الدولي، في وقت يتضح فيه تماما أنه لم يعد للدولة من سيولة مالية تغطي توريد ضروريات ملحّة من غذاء ودواء ووقود.
أوضاع دفعت بمئات الناس إلى التظاهر في كثير من المناطق والأحياء الشعبية من العاصمة بعد أن ضاقوا ذرعا بالتدهور المستمر لمعيشتهم، والتعامل الأمني معهم، وهم من ظنوا أن الفرج قد يأتي من رئيس «نصير الفقراء» و«محارب للفساد». مناخ اجتماعي خانق دفع بالآلاف إلى الهجرة، ومنهم من ركب قوارب موت يرتفع ضحاياها كل يوم أمام فشل مخيف لدولة اهتزت أركانها ووَهَن عظمها.
خامسا، رأي عام ساخط صارت مواقع التواصل الاجتماعي متنفسه الأساسي والوحيد غير عابئ بمرسوم رئاسي صدر مؤخرا لتضييق الخناق عليه.
وفي وقت تقهقرت فيه كثيرا صورة تونس في المحافل والإعلام الدوليين، عاد الإعلام العمومي، وأغلب الخاص، إلى عاداته القديمة عقود الاستبداد، اندفع الناس نحو «فيسبوك» يصبّون فيه جام غضبهم، ومن بينهم من سبق أن توسّم خيرا في الرئيس فجاءت خيبته موجعة جدا.
هل هذه أجواء يتوجه فيها الناس إلى صناديق الاقتراع في ديسمبر/ كانون الأول لانتخاب برلمان جديد كرتوني لا يحل ولا يربط؟! طبعا لا، لكن المؤلم في مشهد هذا القِدر الموشك على الانفجار، هو أن لا أحد تقدّم محاولا تنفيسه إذا تعذّر إنزاله من فوق النار. حتى ذلك الرباعي الذي حصل على جائزة «نوبل» للسلام عام 2014، لنزعه فتيلا سابقا، أقعدته حسابات انتهازية عن أي مبادرة.
في الأثناء، تتابع الأطراف الدولية الفاعلة ما يجري، والذي لا يحظى سوى بإعجاب جارٍ قريب وآخر بعيد، بكثير من القلق، مع تساؤلات حائرة تتعلق بالمؤسستين العسكرية والأمنية. يشترك في ذلك المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة وأوروبا، وخاصة فرنسا التي تعيد مرة أخرى خطأها القاتل في رعايتها الدائمة للاستبداد، مع أن إعلامها لم يرحم قيس سعيّد أبدا.